تحضر مدينة طرابلس اللبنانية التي تعد عاصمة الشمال، في الإعلام اللبناني والعربي، في هذه الفترة الحرجة والمضطربة التي يعيشها لبنان، بصفتها مدينة فقيرة ومهمشة اقتصادياً واجتماعياً، وتشهد تظاهرات شبه يومية ومواجهات أمنية، ويصر أبناؤها الذين يعانون الحرمان والعوز، على النزول إلى الشوارع والساحات مطالبين بحقهم في العيش والكرامة. هذه المدينة العريقة لم تشهد في تاريخها ما تشهده اليوم، من إهمال وتراجع عمراني، لكن ذاكرتها العريقة تظل شاهدة على تاريخها الفريد الذي يمتد من الإغريق إلى العثمانيين، مروراً بالرومان والفرس والصليبيين والمماليك. وقد نجح أبرز الغزاة في تاريخ المشرق في التعامل مع طرابلس الشام، التي أطلق عليها الأوائل اسم تريبوليس، وقد تحوّلت على التوالي من مقاطعة رومانية، إلى عاصمة بيزنطية، ثمّ مرزبة فارسية، فناحية صليبية، فجُند مملوكيّ ثمّ ولاية عثمانية. وعلى مرّ العصور، جرى تكريم طرابلس وتنميقها بمعالم مدينية ودينية تليق بمكانتها ومنزلة غزاتها على حدّ سواء.
من هذا الماضي المجيد، تحتفظ طرابلس بحيويّتها العالميّة، متجسّدةً في مدينة تلتقي وتتعانق فيها الديانات والثقافات والإثنيات والتقاليد المتدفّقة من شواطئ أخرى واقعة على البحر الأبيض المتوسّط، من داخل بلاد الشام إلى عتبة آسيا الوسطى.
ولكن كيف لهذه الأرض الخصبة بالحضارة أن تواجه ما تستحقّه في كونها "العاصمة الثانية للبنان"؟ مع قيام لبنان الكبير، تحوّل الانزعاج إلى شعور عميق بالغُبن والظلم، عزّزته محاولة الجمهورية الحديثة أن تقدّم نفسها كدولة-وطن، ما أحال طرابلس إلى دور ثانويّ، في القرن العشرين. ولم تكن فترة الانتداب ولا حتّى السنوات "الثلاثين المجيدة" لتعيد للمدينة مجدها الآفل، بل على العكس، فقد رمت عليها حرب 1975 بثقل شناعاتها، وزاد من بؤسها ما فعلته بها الميليشيات المسلحة التي تنتمي إلى أحزاب وجماعات مختلفة في انتماءاتها ومشاربها.
المدينة المتعددة
لكنّ طرابلس تظل تجسّد رمز المدينة الوارثة ثروات هندسية وإنسانية وثقافيّة لا تُحصى ولا تُعدّ. ولو أنّ سنوات إعادة الإعمار المزعومة لم تكن أكثر من شاهد على الدمار، والإفقار، والإذلال. وبالكاد نجحت حفنة المشاريع السياحيّة المخصّصة لاستقطاب الزوّار إلى الأحياء التاريخية في إخفاء الكارثة الاجتماعية والحضريّة والاقتصادية والإنسانية المتفشّية في ضواحي المدينة، والمدعومة من شتّى أنواع الاتجار؛ كارثة مدوّية لقنبلة موقوتة تُحدق بجوهرة من جواهر التاريخ والعيش المشترك، "طرابلس الشرق، المدينة التعدّدية".
انطلاقاً من هذه المعطيات التاريخية والعمرانية والاجتماعية، تقيم المصورة هدى قساطلي معرضاً افتراضياً تنظمه غاليري أليس مغبغب – بيروت بعنوان "طرابلس الشرق: المدينة التعددية"، وتقدم فيه مجموعة كبيرة من الصور الفنية والجميلة التي كانت التقطتها بكاميراها وعينها الحذقة من قلب طرابلس وأحيائها، وعبرها تلقي الضوء على المعالم الهندسية التعدّدية، والمهارات، والفنون الحرفية الحيّة، والنكهات المتعدّدة الخاصّة بطرابلس الشرق. من خلال 41 صورة فوتوغرافية التُقطت بين العامين 1990 و2020 وتُعرض اليوم للمرّة الأولى. يفتح المعرض نافذة للتفكير والتأمّل حول ذاكرة مدينة، حول حاضرها ومستقبلها.
وخلال أيام المعرض سوف يتم عرض أفلام وثائقية عن طرابلس منها: "حبّ وحرب فوق السطح"، 42 دقيقة، إخراج سامر غريّب. في مارس (آذار) 2015، قبِل مقاتلون من جبل محسن وباب التبّانة، وهما حيّان من أحياء طرابلس، المشاركة في تحضير وتقديم مسرحية كوميدية مستوحاة من صلب حياتهم. مشروع إنهاء الصراع هذا الذي تديره وتشرف عليه جمعية "مارش"، يحكي قصّة أولئك المقاتلين، ألدّ الأعداء، وقد تحوّلوا إلى ممثّلين ثمّ أصبحوا في ما بعد أصدقاء. يسلّط هذا الوثائقيّ الضوء على الأمل في حياة أفضل لأولئك الذين يقاسون حروب الآخرين. وكذلك فيلم "نيماير للأبد" لبنان، 2018، 30 دقيقة، نيكولا خوري/باف، باللغة العربية مع ترجمة فرنسية أو إنجليزية. يستعيد هذا الفيلم تاريخاً مؤثّراً لمعرض طرابلس الدولي؛ "المدينة الشبح"، المكوّنة من مليون متر مربّع، ومئة ألف متر مربّع من الإنشاءات التي لم تبلغ أبداً الهدف الذي من أجله أقيمت. هذا المعرض، الذي قام بتصميمه في ستّينيات القرن الماضي أوسكار نيماير، الاسم اللامع في عالم الهندسة الحديثة وباني العاصمة برازيليا، يقبع اليوم مغموراً بشعور هدوءٍ غريب، بل مقلق أحياناً يخفي بين طيّاته ذكريات مريرة.
هدى قساطلي، مواليد 1960 بيروت. حازت في العام 1984 الشهادة العليا في الفلسفة من جامعة السوربون الفرنسية. في العام 1987، قدّمت أطروحة دكتوراه في الأثنولوجيا وعلم الإجتماع المقارن من جامعة باريس – نانتير. عادت هدى قساطلي في العام 1986 إلى مسقط رأسها، وكرّست حياتها المهنيّة للبحوث والتصوير؛ فاختيرت خبيرة دولية لمشروع "مدينة" الأوروبي، وعُيّنت باحثة ملحقة بجامعة البلمند وبوحدة البحوث المتعدّدة التخصّصات عن الذاكرة في جامعة القديس يوسف، وفي الوقت نفسه باحثة شريكة لمركز الدراسات والأبحاث عن الشرق الأوسط المعاصر (سيرموك). يساهم تخصّصها في الإثنولوجيا في شحذ وصقل نظرتها إلى التراث المعماريّ، والتقاليد الاجتماعية، والبيئة، والحياة اليومية؛ وتتضافر دراساتها الأكاديمية مع مهنة التصوير التي تمارسها وتُعنى بصقلها منذ سنّ المراهقة، فأصبحت المرأة الأولى في لبنان الفنّانة-المصوِّرة. وتجدر الإشارة إلى أنّ مكتبة الصور الفوتوغرافية في مركز جورج بومبيدو – باريس حرصت منذ العام 1987 على اقتناء صورها وهي تضمّ اليوم ما يقارب المئة منها. في العام 1992، استقبل معهد العالم العربيّ أوّل معرض خاصّ لقساطلي؛ وسرعان ما أصبحت أعمالها الفوتوغرافية تُعرض وبانتظام، في عدد من الغاليريات أو المراكز الفنّية في بيروت وأوروبا.