بعد عودته من جبهات القتال التي أمضى فيها سنة خلال الحرب العالمية الأولى، ما كان في مقدور الرسام الشاب آنذاك، جورج غروس أن يرى المدينة، أي مدينة، إلا على صورة الجحيم. لكنه لم يعرف السبب حينها. كل ما في الأمر أن زحام شوارع المدينة والكآبة المسيطرة على أهلها والموت الرابض في كلّ مكان وسهولة انتشار الأوبئة فيها، كلها أمور أعادته إلى عصور ماضية وإلى لوحات لرسامين من تلك العصور (هيرونيموس بوش وبروغل الأكبر بين آخرين) عرفوا كيف يحولون الزحام إلى جحيم والناس إلى أشكال حيوانية تأكل بعضها بعضاً. من هنا رسم لوحات واسكتشات متعددة عبّر فيها إن لم يكن عن المدينة نفسها فعن رعبه من المدينة. وهو سيقول لاحقاً أن لوحة واحدة هي بالأحرى ثلاثية لزميله وصديقه أوتو ديكس عنوانها "المدينة" سوف تكشف له عن حقيقة نظرته هو إلى هذه الأخيرة. المهم في الأمر أن من بين اللوحات "المدينية" التي حققها غروس أواخر العقد الثاني من القرن العشرين تبدو لوحة "تحية إلى أوسكار بانيتزا" وكأنها تتويج لعلاقته مع المدينة.
مدينة الجنون
ففي هذه اللوحة التي يبلغ ارتفاعها 140 سم وعرضها 110 سم وتوجد حالياً في "شتاتغاليري" بمدينة شتوتغارت الألمانية، يصوّر غروس ذلك العالم المجنون الذي تشكله المدينة ولكن من خلال تحية فنية يوجهها إلى المدعو أوسكار بانيتزا الذي كان يعتبر من البوهيميين الأكثر فوضوية في المدينة (برلين) والذي بعدما تلقى في صباه تربية دينية صارمة ومحطّمة، انصرف إلى أكثر الفنون استفزازية بالتواكب مع ممارسات إجرامية جعلته لا يخرج من سجن إلا ليدخل إلى غيره هو الذي كان يقول عن نفسه: "أنا لست فناناً، بل مريضاً نفسياً استخدم الفن لأعبر عن جنوني...". كغيره من المثقفين يومها، افتتن غروس بتلك الشخصية وكانت نتيجة افتتانه هذه اللوحة التي أوصل فيها جنون المدينة إلى مستوى يضاهي جنون بانيتزا. ومن هنا لم تكن من المصادفة أن يحاصر جنون المدينة والموت والأقنعة المتناثرة في شوارعها، بجنود يمتشقون السيوف الدامية (أسفل يمين اللوحة) وبرجل دين يرفع صليبه علامة على انتصاره. بالنسبة إلى غروس لا يتحقق ذلك الانتصار المزدوج، إلا عبر تلك المسيرة الشيطانية الليلية تقوم بها، وبحسب وصف غروس نفسه لما "يجري" في لوحته، جموع لم يعد يطبعها ما هو إنسانيّ، ولا يمكن أن يُقرأ على سيماء وجوهها – إن بقيت لها وجوه – سوى الخمر ومرض الزهري والطاعون" بل كل ضروب الأوبئة إن شئنا توخّي الدقة. ويقرّ غروس في حديثه نفسه بأنه إنما أراد أن يسير على خطى بوش وبروغل "فهما مثلنا كانا يعيشان ويرسمان في القرون الوسطى في أزمنة نهايات شيء ما وبدايات أشياء أخرى" مضيفاً: "أنا بدوري إنما أرسم احتجاجاً ضد بشرية أصيبت بالجنون... وما الألوان سوى وسيلتي للاحتجاج".
من أساطين الملصق والكاريكاتور
قد لا يكون جورج غروس واحداً من كبار الفنانين الذين عرفهم القرن العشرون، وحتى مكانته في التيارات الفنية المختلفة التي انتمى إليها، في هذه المرحلة أو تلك، يمكن النقاش حولها. كما أنه لم يكن من قبيل المصادفة أنه لا يُكتشف، من جديد، إلا في كل مرة يتم فيها البحث في علاقة الفن بالسياسة وفي كل مرة يجري فيها الحديث عن رد فعل الفن التشكيلي إزاء الأحداث الكبرى، وعن العلاقة بين الفن التشكيلي وفن الكاريكاتور. وذلك لأن جورج غروس كان بارزاً في هذه المجالات الثلاثة أكثر مما كان بارزاً في فن إنتاج اللوحة وفي الحضور في المعارض، أو حتى في التيارات.
على عكس العديد من أقرانه من الفنانين الألمان الذين عاشوا خلال المرحلة الفاصلة بين القرنين التاسع عشر والعشرين، وكانوا في معظمهم من أبناء أسر بورجوازية مرفهة، كان جورج غروس المولود في برلين العام 1893 ابناً لأسرة فقيرة. من هنا عاش في طفولته حياة بؤس منعته حتى من استكمال تعليمه أو من دراسة الفن التشكيلي كما يجب، على الرغم من بروز مواهبه باكراً. لذلك التحق بالعمل لدى رسام من المنتمين إلى تيار "اليوغندستيل" (الأسلوب الشبابي) الذي كان على الموضة في ذلك الحين، وكان يسعى لتكريس دور ألماني في تيارات الفن الحديث. ولقد ساعده عمله عند ذلك الرسام على اكتساب بعض المال الذي مكنه من الانتساب إلى أكاديمية درسدن الملكية، وهو اهتم هناك بصورة خاصة بدراسة فنون اليابان وأعمال الفرنسيَين دومييه وتولوز لوتريك والإسباني غويا. والحقيقة إن تأثير هؤلاء فيه ظل ماثلاً في أعماله حتى أيامه الأخيرة، وهو تأثير أعطى لأعماله على الدوام طابع فن الملصق، ووجّهه بشكل خاص نحو دراسة وممارسة فن الرسم الكاريكاتوري.
غير أنه على الرغم من تميّز رسومه الأولى عجز عن نشرها في أي من صحف تلك المرحلة، ما قاده إلى ارتياد المقاهي وممارسة حياة بوهيمية كان خلالها يبيع الرسوم الكاريكاتورية للمارة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الحجّ إلى باريس
وهكذا تمكن، مرة أخرى، من جمع مبلغ صغير من المال مكنه من السفر إلى باريس في ربيع 1913 حيث كان يريد تمضية سنوات. غير أن الحرب العالمية الأولى فاجأته فإذا به يجنَّد في القوات الألمانية ويصطدم مباشرة بمآسي الحرب. وهو من خلال رصده تلك المآسي وحياة الجنود ومخاوفهم، تمكن من تحقيق تلك السلسلة من الرسوم ذات الطابع الكاريكاتوري التي عبرت عن أهوال الحرب، وجعلت له، حين راحت تُنشر، مكانة كبرى بوصفه فناناً مناهضاً للحرب يعلن مناهضته تلك في رسوم تمتلئ بجثث الجنود والأيدي المبتورة، وتكشف التفاوت الطبقي بين الجنود وضباطهم وتصرخ منادية بعبثية الحروب، كل الحروب. ولقد تمكن غروس في تلك الآونة من نشر العديد من رسومه في الصحف ما لفت إليه أنظار السلطات فاعتقلته في مأوى للجنود العصابيين، معتقدة أن ذلك الاعتقال سوف يردعه عن الاستمرار في تحقيق رسومه، فإذا به يواصل راسماً هذه المرة أنواعاً جديدة من الجثث (جثث الجنود الأحياء) ومن أهوال الحرب.
نهاية أميركية
وانتهت الحرب وكان غروس قد بدأ يصيب من الشهرة ما سهّل عليه عيشه بعد ذلك، بل أسس مع كارل إينشتاين مجلة هزلية قاسية، ثم انضم إلى تيار الدادائيين على غرار زميله أوتو ديكس، الذي ارتبط اسمه به بعد ذلك. وعلى الرغم من اتهام السلطات له بالخيانة والطعن في ذات الإمبراطور صاحب السلطة العليا، فإنه عرف دائماً كيف يفلت وكيف يواصل رسومه التي اختلط فيها الاجتماعي بالسياسي، فإذا بها تصبح معبرة عن آلام وإخفاقات جيل بأسره من الألمانيين، من دون أن تعتبر أعمالاً متحفية أساسية. وهو استمرأ تلك اللعبة فإذا به يحوّل كل طاقاته لتحقيق رسوم مناهضة للروح العسكرية ولكل نزعة شوفينية قومية. ومن هنا اعتُبر غروس الرسام الأكثر هزءاً من الواقع الاجتماعي خلال السنوات المجنونة، والمشاكس الأول في الفن الألماني. ومن هنا كان من الطبيعي له، حين وصل النازيون إلى السلطة، أن يهرب من المانيا، فتوجه إلى الولايات المتحدة ونال الجنسية الأميركية، لكنه في اللحظة نفسها انتهى كفنان، فقد تبين له بوضوح أن فنه لم يعد يساوي شيئاً إذ انقطع عن جذوره ومصادر إلهامه. ومن هنا ظلت تلح عليه فكرة العودة إلى إلمانيا، حتى حققها أخيراً في 1959 معتقداً أنه سوف يستعيد مكانته وقدراته الفنية، لكنه سرعان ما رحل في العام نفسه منسيّاً أول الأمر قبل أن يعاد اكتشافه مع الفورة الألمانية فيعتبر واحداً من كبار الفنانين الذين أثّروا في رسامي الكاريكاتور والملصق في القرن العشرين.