بمبادرة من مؤسسة أنطوان دو سانت اكزوبيري، يحتفل العالم اليوم بالذكرى المئة والعشرين على ولادة صاحب "الأمير الصغير". وبهذه المناسبة، اختارت المؤسسة أن يكون التاسع والعشرون من شهر (يونيو) حزيران، يوماً عالمياً لـ"لأمير الصغير". ويأتي هذا اليوم في وقتٍ تتضاعف فيه الأزمات، كي يُذكّرنا بالقيم الإنسانية التي يحملها هذا الكتاب. وتقول المنظّمة في بيانها إنّ "تكاثر الأزمات والصراعات في وقتنا الراهن تمنح رسائل الكتاب بُعداً أقوى وأصدق عند القرّاء، وأنّ "الأمير الصغير" قادر بقوته التحفيزية وأمكانيته التأثيرية على المساعدة في بناءِ غدٍ أفضل. وهذا يجعله يستحقّ يوماً خاصاً للاحتفاء به". وبات واضحاً دور مؤسسة سانت اكزوبيري الريادي في تقديم مبادرات ونشاطات ثقافية دولية، تكريساً منها لقيمة التواصل الإنساني التي شدّد عليها "سانت إكز"، كما يسميه الفرنسيون، في رائعته الخالدة.
ومن المقرّر أن يشارك محبّو "الأمير الصغير" في تقديم قراءات ونقاشات ولقاءات حيّة وافتراضية، على غرار ما حدث في احتفال "سبعينية" الكتاب (2013)، التي شهدت تفاعلا عالمياً كبيراً. ومن المشاركين روائيون ومخرجون وطيّارون ومغامرون، من فرنسا وأميركا ودول أخرى.
وكلّ مرّة يتجدّد فيها الحديث عن هذا الكتاب، نستعيد السؤال ذاته: ما الذي يصنع أسطورة "الأمير الصغير"؟ ما الذي يجعله الكتاب الأكثر قراءةً وترجمةً في العالم؟ والأهمّ، هل هو فعلاً كتاب للفتيان أم للبالغين؟
نص طفولي وفلسفي
قد يكون "الأمير الصغير" هو الكتاب الأوحد الذي وُجِّه للأطفال، فَفَتَن بسحره الكبار، قبل الصغار. وهذا مردّه إلى أنّه نصٌ فلسفي مغلّف بمناخات طفولية. وإذا لم يكن كذلك، فما الذي يدفع بفيلسوف كبير مثل مارتن هايدغر لاختياره كأعظم كتاب في أدب القرن العشرين؟ على رغم بساطته، يُشكّل "الأمير الصغير" نصّاً فلسفياً وضع فيه سانت اكزوبيري خلاصة تجربته الحياتية التي بدأها طفلاً يعشق الرسم وانتهى به المطاف طيّاراً عاشقاً للصحراء ولفراغها اللامتناهي. هذا العمل قابلٌ للقراءة على مستويين متفاوتين (طفولي وفلسفي). وقد نجح الكاتب في صوغ هذا النصّ الاستثنائي، لأنّه يؤمن أساسا بأنّ مرحلة الرشد لا تُناقض مرحلة الطفولة، فيقول: "جميع البالغين كانوا أطفالاً، لكنّ قلّة منهم تتذكّر ذلك". وقد يكون الأطفال أكثر رُشداً من البالغين لأنهم يرون بقلوبهم، في حين أنّ "الجوهر لا تراه العيون".
يقف الكتاب على الخط الفاصل بين الواقع والخيال، ويُزاوج بين أنواع أدبية متعددة، فيجمع بين القصة وأدب المغامرات، مع بُعدٍ سير- ذاتي. أمّا البطل فهو طفل مثل كلّ الأطفال، لكنه لا يشبه أحداً منهم. ومن يقرأ الكتاب على ضوء حياة الكاتب، يُدرك أنّ "الأمير الصغير" هو طفل أشقر لا يكبر مثل فرانسوا، شقيق سانت اكزوبيري الذي مات صغيراً ولم يكبر. ولمّا كان شاهداً على لحظات احتضاره بسبب الحمّى الروماتيزمية (1917)، وصف أنطوان المراهق موت أخيه قائلا: "ظلّ بلا حركة للحظة. لم يصرخ. سقط رويداً مثل شجرة صغيرة". وهذا ما أعاد صياغته مجازياً في نهاية "الأمير الصغير" حين قال: "هذا كلّ شيء. تردّد قليلاً ثمّ نهض، وخطا خطوة. أما أنا، فلم أكن أقوى على الحركة. لم يكن هنالك شيء سوى بريق أصفر قرب كعبه، وبقي متسمرّاً للحظة. لم يصرخ. ثمّ هوى ببطء مثلما تهوي شجرة. ولم يحدث أي صوت بسبب الرمل" (ص 93).
بين أميركا وفرنسا
وفي ظلّ وحدة الكاتب وعزلته في نيويورك، بعيداً عن فرنسا المنكوبة مطلع الأربعينات جرّاء الحرب العالمية الثانية، كان صاحب "بريد الجنوب" يُسلّي نفسه في رسم أميره الصغير، بوشاحه الأصفر وشعره الأشقر. كأنّه يستدعي بذلك زمنه الضائع، أو ربما طفولته المفقودة بجانب شقيقه "الأشقر". كان يرسم طفله الصغير على الأوراق والمحارم وأغطية الطاولات، إلى أن طالبه ناشره الأميركي بكتابة قصة "مسليّة" من وحي هذه الرسوم، فكان كتاب "الأمير الصغير"، الذي خرج أولاً في الولايات المتحدة، عن دار رينال وهيتشكوك. ولهذا تعتبر أميركا نفسها معنية بهذه الرواية وبالنجاح الهائل الذي حصدته، ومازالت. وليس مستغرباً أن يشارك اليوم نجوم وكتّاب عالميون، من أميركا وفرنسا ودول أخرى، ليكونوا جزءاً من الاحتفالية بواحدة من أكثر القصص الإنسانية تأثيراً وإلهاماً.
ينتمي كتاب "الأمير الصغير" إلى نوع "المغامرات الجويّة"، بحيث تُفتتح القصة على مشهدٍ "واقعي" يدور حول طيّارٍ تتعطّل طائرته في الصحراء، ليجد نفسه وحيداً في مكانٍ خالٍ من كلّ شيء، ما عدا الرمال. ثمّ يُقابل طفلاً صغيراً جاء من كوكب رقمه 612، تعطّلت مركبته في المكان نفسه أيضاً. يطلب الأمير الصغير من الطيّار أن يرسم له خروفاً، لكنّ الطيّار يرسم له ثعباناً يأكل فيلاً، وهي الرسمة التي عجز الكبار عن فهمها يوم رسمها وهو طفل في السادسة. من هنا، تنطلق الأحداث، وتدخل الشخصيتان اللتان تنتميان إلى كوكبين مختلفين في حوارات لمّاحة، لا تخلو من أسئلة وجودية وتأملات شعرية وفلسفية.
يحمل الكتاب جرعة تهكمية عالية، بحيث يسخر الأمير الصغير من عالم الكبار الذين ينشغلون مثلاً عن تأمّل وردةٍ جميلة بحجة أنّهم جدّيون. ويعطون الأهمية القصوى للأرقام، بدلاً من الأفكار: "إذا قلت للراشدين إنني رأيت منزلاً جميلاً من القرميد الأحمر، تزيّن نوافذه الرياحين، ويحطّ على سقفه الحمام...، فإنهم لا يتمكنون من تخيّل ذلك المنزل. ينبغي أن تقول لهم: رأيت منزلاً يساوي مائة ألف فرنك. فيهتفون حينها: ما أجمله"... يسخر أيضاً من اهتمام البالغين بالأجوبة، عوض التفكير بالأسئلة، ومن حياةٍ استهلاكية يشترون فيها كلّ الأشياء جاهزة من التجّار بدلاً من استكشافها وصناعتها والتلذّذ بها: "وبما أنّه لا يوجد تجّار يبيعون الأصدقاء، لم يعد للناس أصدقاء".
في خضم الحرب العالمية الثانية، جاء "الأمير الصغير" من كويكبه البعيد ليواجه إنسان القرن العشرين، ويسخر من نضجه المزعوم وحداثته المدمرة وصراعاته العبثية. وكم نحتاجه اليوم، في القرن الحادي والعشرين، كي يواجهنا بحقائقنا المفزعة ويسخر من فراغ عالمنا وخوائنا الداخلي.