قدّمت السينما الأميركية على مر العصور، سلسلة من الشخصيات التي عُرفت بقسوتها واعتزازها برجولتها ولياقتها البدنية. كان هذا الأميركي الذي تكرّس على الشاشة مستكشفاً ومنجزاً ومدافعاً. من الخمسينيات إلى الثمانينيات، تطوّرت هذه الشخصية، متأثرةً بالتداعيات الاجتماعية والسياسية والثقافية الضخمة التي تركتها الحرب العالمية الثانية. جون واين (1907 - 1979) من الممثّلين الذين أدّوا هذه الشخصية على أتم وجه في أفلام هوليوود، فتحوّل معها إلى أيقونة، تربى عليها جيل آبائنا. يصعب فصل تاريخه وسيرته وأفلامه عن مجمل تاريخ الولايات المتحدة والصراعات التي شهدتها. كان واين من النوع الذي ينجز مهمته حتى النهاية مهما تكن صعبة أو قاسية. وقد كرّمه الكونغرس الأميركي لدى موته كما لم يكرّم ممثّل قبله.
البطل المثالي
بوجهه المربّع وكتفيه العريضتين وقبّعته التي تغطي رأسه، كان واين مقدّراً لتجسيد الأبطال المثاليين الذين لا يخافون شيئاً أو أحداً. لاحظه المخرج جون فورد عندما كان يعمل في الإكسسوارات على بلاتو التصوير، وساعده على الانطلاق في "بيت هانغمان" (1928) في دور قصير لم يُذكر حتى اسمه في الجنريك، فأصبح الرجلان صديقين وصوّرا معاً عدداً من الأفلام الكبيرة أعظمها تحفة فورد "الباحثون". ثم ظهر واين في أفلام موازنتها ضئيلة. عام 1939، عاود العمل مع فورد في "ستايجكوتش". برز في هذا العمل الذي يُعتبر محطّة مهمّة في تاريخ الوسترن. مذذاك، لم يتوقّف عن تأدية شخصية الكاوبوي الشجاع والمصر على تطبيق القانون وإحقاق العدالة.
دخل حياة المزرعة في "النهر الأحمر" (1948)، وأدّى دور الـ"شريف" في "ريو برافو" (كلاهما لهاورد هوكس) بفكاهة، حاصداً نجاحاً كبيراً. ثم أُسنِدت اليه أدوار خارج نطاق الوسترن، ولكنه لم يبتعد عن شخصية الرجل ذي الملامح الصارمة، فانتقل من دور البحّار ("عملية في المحيط الهادئ") إلى دور الملاكم ("الرجل الهادئ") إلى مسؤول سيرك ("أكبر سيرك في العالم")، بارزاً في أفلام الحروب بشكل خاص. حاول أيضاً تجربة الإخراج، فأنجز "ألامو" الشديد العنف. وكان العام 1970 تاريخاً مهماً لواين، إذ حاز جائزة "أوسكار" عن دوره في "ترو غريت".
في مخيلة المُشاهد الأميركي أو حتى غير الأميركي، كان واين ولا يزال مثالاً للقوة والعزيمة ودليلاً على تفوق الرجل الأبيض على سائر البشر. كان البطل الوفيّ الذي مرّ بتجارب، والشجاع غير القادر على التراجع عن موقفه وارتكاب أي فعل جبان. هكذا أضحى أيقونة الثقافة الأميركية الشعبية.
خلف جميع هذه الشخصيات القاسية التي أدّاها وأصبحت تتلبّسه، كان واين يخفي روحاً متفائلة وإحساساً مرهفاً، إذ قال مرّة: "يجب التطلّع إلى المستقبل دائماً. فالتفكير في الغد أحد أسعد الأمور في حياتي، بالإضافة إلى ركوب حصان جيّد، والتحديق في الليل الهادئ والتمدّد على العشب الناعم، ورؤية أمّ تتعرف إلى طفلها، وصوت ولد يدعوك أبي للمرة الأولى. الحياة حافلة بالأمور المدهشة". وعلى مستوى القيم، جسّد واين أفضل ما في أميركا وأسوأها، سواء وافقتَ على سياسته أم لا. أكثر من أي ممثّل آخر، كان يحلو له أن يكون قدوة لبلده. لعلّ هذا ما يفسّر حبّ الأميركيين له وبروز اسمه في الأوقات الصعبة، باعتباره المعيار الأميركي الحقيقي للشهامة.
معسكر اليمين
لم يخفِ واين يوماً آراءه السياسية ومواقفه الأيديولوجية، وهي كانت في أغلبها آراء تنم عن فكر محافظ أقرب إلى معسكر اليمين. آراء ظلت تطارده إلى يومنا هذا وتساهم في تشويه فنّه. ففي خضم الحرب الفيتنامية، عام 1968، قرر واين المشاركة في الحرب على طريقته بإخراج "القبّعات الخضر". كان العمل الذي عاونته فيه القوات المسلحة، مثيراً للريبة، دعائياً ولا يُطاق من المنظور الإيديولوجي. كان أشبه بحملة على الشيوعية واليسار وكلّ مَن لا يتفق معهم سياسياً. ترويج واضح لخيار الحرب، وتسويق لضرورة التورط الأميركي في المستنقع الفيتنامي، خلافاً لكلّ الأفلام المناهضة للحرب التي ظهرت في العقود اللاحقة على يد سينمائيين متنورين لهم مواقف تقدمية. ظلّ واين متمسّكاً بموقفه، حتى بعدما أصبح مجمل الرأي العام الأميركي يميل ضد الحرب.
مع تغير العالم وانفتاحه على الثقاقات الأخرى والإقرار بحقوق الأقليات وتبدّل العقليات، بدأ دعمه غير المشروط للموقف الأميركي الرسمي، يعمّق الهوة بينه وبين جيل جديد من السينمائيين والجمهور. فالكثير من الجدل أثير لدى صدور "الكاوبويز" لمارك ريدل، الذي أنجزه سبع سنوات قبل رحيله. الفيلم أغضب كلّ الذين كانوا ضد تبريره الاستخدام المفرط للعنف من أجل الحفاظ على القانون، ولكنه كان ناجحاً تجارياً، إذ استوحي منه مسلسل تلفزيوني.
تحطيم الأصنام
اليوم، بعد مقتل جورج فلويد، وفي ضوء ما شهدته أميركا أخيراً من غضب ضد التعامل العنصري مع فئات من الشعب الأميركي، ورفع شعار "حياة السود مهمة" وتحطيم الكثير من الأصنام والتماثيل لشخصيات ارتبطت بتاريخ العبودية، ثمة مَن نبش في سجل جون واين مجدداً. الهدف صريح: تحطيم أصنام من الماضي شكّلت الوعي الجمعي الأميركي ومحاولة تشكيل وعي جديد انطلاقاً من قيم اليوم. والخطوة الأولى في هذا هي عبر إدانة واين الذي مجمل الناس في أميركا لا يزال يراه بطلاً، وتقديمه في صورة الرجل الفاشي، عدوّ كلّ شخص لا يجري في عروقه دم أميركي صافي.
ففي مقابلة كان أجراها مع مجلة "بلايبوي" في العام 1971 عادت وانتشرت قبل بضعة أيام على وسائط التواصل الاجتماعي، تحدّث واين بالكثير من العبارات التي تنم عن نظرة عنصرية وفوقية. في هذه المقابلة، نكتشفه ضد حركة "هوليوود الجديدة" التي صعد نجمها بدءاً من أواخر الستينيات على يد سينمائيين مثل كوبولا وسكورسيزي وبراين دبالما، وهي كانت "ثورة" ضد السينما التي جسّدها هو وجيله. أما عن أفلام مثل "إيزي رايدر" و"كاوبوي منتصف الليل" اللذان أحدثا انقلاباً في المفاهيم وثارا على ما كان يُعرف بالحلم الأميركي، فنعتهما واين بالـ"الأفلام المنحرفة"، منتقداً العلاقة المثلية ومادحاً فضيلة العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة، كبديل طبيعي عن هذه العلاقات "الشاذة"، كما قال.
بيد أن أكثر تصريح أزعج أعداء واين هو ذاك الذي أعرب فيه عن إيمانه الصلب بأن العرق الأبيض يتفوق على سائر الأعراق. أما عن الأفرو أميركيين، فقال: "لا يمكننا فجأةً أن نركع أمامهم ونعطيهم السلطة. لا أؤمن في منح القيادة إلى ناس لا يتحلون بالمسؤولية". أما عن تاريخ أميركا مع العبودية، فقال في المقابلة المذكورة إنه لا يشعر بأي ذنب حياله، ببساطة لا يشعر بذنب بأن هؤلاء الناس كانوا من العبيد قبل خمسة أو عشرة أجيال. مع ذلك، وضّح بأنه ليس مع العبودية في الوقت الراهن، وشبّهها بالطفل المعوّق الذي يخضع لعلاج طبي معين كي يستطيع لعب كرة القدم مع سائر الأطفال.
حتى السكّان الأصليون لأميركا لم يوفّرهم، علماً أن الكثير من هؤلاء كانوا شخصيات أساسية في أفلام الوسترن التي صنعت مجده. قال: "لا أشعر بأننا اخطأنا عندما أخذنا هذه الأرض العظيمة منهم. السرقة المزعومة كانت مسألة بقاء على قيد الحياة. كان هناك عدداً كبيراً من البشر يحتاجون إلى أرض جديدة، والهنود الحمر كانوا يحاولون إبقاءها لأنفسهم بطريقة أنانية".
طبعاً، إعادة نشر هذه المقابلة في هذا التوقيت بالذات ليست مصادفة. كأي قضية تنتشر في العالم الافتراضي، انقسمت الآراء حولها. المحافظون اعتبروا نبش مثل هذا الكلام بعد مرور نحو نصف قرن عليه، ما هو سوى محاولة نيل من رجل ميت، ونوع من أنواع النفاق الليبرالي، علماً أن هذه ليست المرة الأولى التي يطفو فيها كلامه على السطح. فجدل مشابه حدث في العام 2016، عندما أقدمت ابنة واين، آيسا واين، على تأييد المرشّح دونالد ترامب لرئاسة الجمهورية.