تمثل كتب الزعماء السياسيين، من رؤساء وقادة جيوش ورؤساء حكومات ورؤساء أحزاب، أفق انتظار وازن في تقاليد القراءة لدى المواطن في أوروبا وأميركا وسائر الدول المتقدمة.
بل إن كثيراً من الحروب السياسية التي تقوم على هامش المواعيد الانتخابية الرئاسية أو البرلمانية يُحضّر لها على صفحات كتب الزعماء، أكثر مِمّا يُحضر لها من خلال الحوارات الإعلامية المرئية أو المكتوبة أو المسموعة. فالكتاب لا يزال له سحره الشعبي والنخبوي وله تأثيره الكبير في توجيه الرأي العام الأوروبي والأميركي أكثر مِمّا تفعله وسائل الإعلام التقليدية أو الجديدة.
ومع كل موعد انتخابي أو سياسي مفصلي، يخرج علينا بعض الساسة والزعماء في الدول المتقدمة بمدافعهم المتمثلة في نشر "كتب" مرتبطة سواء بالسيرة الذاتية أو بالمسار السياسي أو كتب مرتبطة بمواقفهم من أزمات العالم، وهي كتب فاعلة ووازنة في معركة الانتخابات، وفي عملية التموقع وإعادة التموقع السياسي.
إن الضجة حول صدور كتاب جون بولتون، المستشار السابق للرئيس الأميركي دونالد ترمب هذه الأيام، والولايات المتحدة على بعد خمسة أشهر من الانتخابات الرئاسية، يعكس بالفعل ما تمثّله شراسة الحرب من خلال الكتب حول الانتخابات. الكتب ترعب الزعماء، ترعب الخصم، الكتب جيش ووزارة دفاع حقيقية بأسلحتها الفتاكة. الكتب خطيرة لأنها تُطبخ على نار هادئة وتمسّ الطبقة التقليدية في المجتمع وتمسّ أيضاً الطبقة المثقفة والوسطى التي لها تقاليد عريقة مع ثقافة الكتاب.
أما الزعماء العرب، فهم لا يكتبون كتباً عن أنفسهم أو عن تجاربهم أو للتعبير عن وجهة نظرهم في مشكلات العالم التي تحيط بهم والمتورطين فيها برغبتهم أو غصباً عنهم، لا يكتبون كتباً للأسباب التالية:
1- الزعيم العربي أو المغاربي بشكل عام لا يؤمن بدور القراءة، لأنه هو أساساً لا يقرأ، وإذا قرأ لا يقرأ سوى التقارير الأمنية، ولا يؤمن بدور الثقافة أصلاً ويعتبرها فلكلوراً وعجلة خامسة، والثقافة في منظوره هي تلك التي تدور في فلكه أو للترويج لسلطته، ما عداها فهي ضرب من البهتان وشرّ يجب وضع حدّ لسمومه. والزعيم العربي لا يؤمن بالكتاب كقوة قادرة على التغيير، لأن التغيير في رأيه لا يأتي إلّا عن طريق "الأمن" و"القمع" و"القوة"، وأن الكتاب الوحيد الذي يجري الترويج له والتلاعب به هو القرآن الكريم، لما له من وزن في معتقدات العامة من المؤمنين البسطاء، إذ يُستعمل بما يكرّس وجودهم ويمنحهم سلطة "روحية كاذبة"، إضافةً إلى السلطة السياسية والعسكرية والأمنية على المواطنين، وقراءة الكتب، في عيونهم، ليست أكثر من مضيعة للوقت ومفسدة للذوق العام والخاص.
2- لا يكتب الزعيم العربي أو المغاربي عن سيرته الذاتية لأنه يريد أن يخفي كل شيء عن المواطن. وإذا ما كتبها، بطبيعة الحال عن طريق شخص يكلف بذلك، فهو يتحوّل في الكتاب إلى صورة ملاك لا يخطئ وإنسان من صفاء مطلق وطهرانية نبوية.
3- لا يكتب الزعيم العربي أو المغاربي كتباً عن رؤيته لمشكلات العالم، لأنه يعرف مسبقاً بأن رأيه لا يهم العالم، وأن ما يقوله لا وزن له داخل البلد، وأيضاً إن مشكلات العالم لا تهمه، كل ما يهمه من هذا العالم هو ما يساعده على البقاء على كرسيه ما دام على قيد الحياة.
وكتب الزعماء العرب والمغاربيون إذا ما وجدت، قد يحدث هذا من باب تقليد بعضهم لزعماء الغرب، لا أحد يقرأها، لأن القارئ ابن البلد يعرف مسبقاً بأن ما في هذه الكتب هو عبارة عن مغالطات وأكاذيب لا تُترجم في الواقع.
وإذا كانت كتب الزعماء السياسيين والقادة في أوروبا وأميركا والعالم المتقدم هي استثمار اقتصادي حقيقي في المكتبات، حيث تباع منها مئات الآلاف من النسخ، كما هي كتب مذكرات ديغول وكتب كينيدي وميتران وشيراك وباراك أوباما ونيكسون وهلموت كول وساركوزي وهولاند وألان جوبي وماكرون وفيون...
وهذه الكتب كما كتب نجوم السينما والغناء والموسيقى، تُقرأ بشكل واسع وهي في حدّ ذاتها تقليد للقراءة وهي، إضافةً إلى ذلك تدرّ مالاً كثيراً على الناشرين وعلى خزينة الدولة. في المقابل، توزَّع كتب الزعماء العرب والمغاربيين مجاناً على ضيوف البلد، إذ توضع نسخ من الكتاب في غرف الفنادق التي ينزل بها ضيوف المهرجانات أو المؤتمرات السياسية، وهي ظاهرة معروفة وعامة، فمع أية تظاهرة ثقافية أو فنية، يجد الضيف في غرفته هدية خاصة جداً، إنها "كتاب الزعيم"، وهو ما يثير اشمئزاز عددٍ كبيرٍ من الضيوف، وهذا يُعتبر انتهاكاً لقيم الضيافة وأخلاقها.
ما في ذلك شك، فتح تصرف جميع الزعماء في الغرب ما يُسمى بـ"الكُتَّاب العبيد"les nègres وهذه ظاهرة عامة، وينتمي "الكاتب العبد" إلى فئة من الكتّاب يعرفون ويتقنون هذه المهنة جيداً، إلّا أنّه في الغرب يعتمد "الكاتب العبد" أساساً على نص أولي وعلى وثائق وجلسات وتسجيلات مع الشخصية السياسية، ودوره يقوم بعملية "التحرير" لما يسمعه أو يقرأه من دون إضافات أو تبريرات أو تشويهات، لأن "الكاتب العبد" يعرف كما يعرف "القائد"، صاحب التوقيع النهائي بأن الكتاب سيصبح وثيقة في القراءة العامة، وهناك خصوم سياسيون يتولّون الردّ عليه في حالة ما إذا حمل مغالطات أو أكاذيب أو فساد في معلومات اقتصادية أو عسكرية ما، لذلك فبين "كاتب العبد" ومحتوى الكتاب عهد من الثقة والأمانة والمهنية.
أما "الكاتب العبد" لدى الزعيم العربي أو المغاربي الذي يرغب في وضع كتاب، فهو "عبد" بالمفهوم الدقيق للكلمة، لا يناقش ما يكتبه حتى إن كان يعرف أن هذا خطأ أو تناقضاً في متن الكتاب، وهو يعتمد في الكتابة على منطلق "ثقافة الدعاية" ويضع في ذهنه أن الكتاب "للدعاية" وليس للحوار السياسي، وأن كتاب الزعيم العربي أو المغاربي يدخل في باب المقدس الذي لا يُناقش ولا يُعارض، بالتالي فما فيه يظلّ من المحرّمات.