ليس من المبالغة القول إن اللبناني يعيش المأساة، كيف لا وهو عاد إلى العصور التاريخية الأولى عندما اعتمد الإنسان المقايضة كوسيلة لتبادل السلع وتأمين حاجاته الأساسية والضرورية. وليس من قبيل المبالغة أيضاً القول إن اللبناني بات يعيش كل يوم بيومه، لأنه لم تعُد في جعبته توقعات إيجابية كثيرة لغده.
في خلال الأيام القليلة الماضية، انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي أخبار عن مبادلة بعض الأفراد مقتنياتهم المنزلية والشخصية مقابل أغراض أخرى يحتاجون إليها. للوهلة الأولى، ظنّ لبنانيون كثر أن الأمر مزحة أو من قبيل السخرية من الواقع الذي يعيشه المواطن الذي اعتاد لوقت ليس ببعيد على حياة الترف. وما هي إلّا أيام حتى بدت الصورة أكثر وضوحاً، فما كان مجرّد حالات فردية تحوّل إلى سلوك جماعي، برهن على عمق الأزمة التي احتبسها أفراد خلف أبوابهم.
المقايضة في دكانة الحي
صحيح أن المقايضة لاقت صدى أكبر من خلال مواقع التواصل الإجتماعي، إلّا أنّ هذا النمط من التبادل انتشر في الفترات الماضية، تحديداً في الأوساط الفقيرة. بدأ التساؤل عن هذا الأمر من خلال زيارة إلى أحد الدكاكين الصغيرة في "حي التنك"، أحد الأحياء الشعبية الفقيرة في مدينة الميناء شمال لبنان، حيث تجد على الرفوف الحبوب والمعلبات بأنواع مختلفة الشعارات والماركات وبأعداد قليلة، ليتّضح أن عائلات العاطلين عن العمل الذين لا يملكون المال، يبادلون المعلبات الموجودة في خزانة المؤونة المنزلية بأغراض أخرى يحتاجون إليها بصورة آنية. ويؤكد صاحب المحل أن "ارتفاع الأسعار قضى على ما تبقّى من فرص حياة لدى الفقراء. لم يعُد بإمكانهم الحصول على الفاصوليا والعدس"، كما أنّ كثراً يدخلون يسألون عن أسعار السلع، وتبدو على محيّاهم الصدمة من الغلاء الفاحش، ليغادروا من بعدها.
وهنا أُعلن أن أصحاب بعض الدكاكين أوقفوا عملية المبادلة لأن الأسعار ترتفع من يوم إلى يوم، كما أن هناك وعداً من قبل وزارة الاقتصاد بصدور 200 سلعة مدعومة عمّا قريب.
لبنانيون يقايضون الأرز بالحليب
ازدحمت منصة "فيسبوك" بعروض لبنانية المصدر للمقايضة، وصولاً إلى إنشاء مجموعة "لبنان يقايض". تحفل المجموعة بشهادات وصور من الواقع الوطني الحالي. فمن سيدة تعرض ملابسها وأحذية أبنائها للمقايضة، إلى آخر يبادل مولّد كهرباء بمعدّات صناعية، وصولاً إلى من يغيّر الأرز بحليب الأطفال، أو راديو سيارة مقابل مايكرويف، كما أن هناك أيضاً مَن يستبدل السلع ببعض الحيوانات، على سبيل المثال مقايضة كيلو زعتر بلدي بدجاجة بلدية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
دفعت هذه الحالة بعض الناشطين إلى إنشاء مجموعات "واتساب"، تتم الدعوة إليها من خلال نشر الرابط عبر التواصل الاجتماعي. منير ياسين، ناشط من طرابلس ويعيش في باب الرمل أحد الأحياء الشعبية، التي يُعاني أهلها من جوع يدقّ أبوابهم، أنشأ مجموعة "طرابلس للمقايضة" في محاولة منه لجمع المهتمين بهذه الوسيلة من مختلف الأحياء في المدينة. يشير إلى أنها باتت تتمّ لقاء الحدّ الأدنى من الحاجات الأساسية للأفراد، ويأتي "حليب الأطفال في مقدمة الطلبات". ويعتبر ياسين أن ذلك مؤشر خطير إلى الوضع الذي سنعيشه لاحقاً، لأننا نتّجه صوب المجهول، قائلاً "وصلنا إلى ما دون الصفر، إذ يُضطر بعض الأهالي إلى استخدام أكياس النفايات لأبنائهم عوضاً عن الحفاضات".
المؤشرات بدأت منذ فترة
ومنذ فترة، بدأت مؤشرات عملية المقايضة، ولكن لم يكن أحد ليعتقد أن هذه الحالات ستتحوّل إلى ظاهرة على نطاق واسع بحسب الناشط كلود عبود، الأمر الذي يشبّه اقتصاد العصور البدائية. وهو يتّهم السلطة التي تعاقبت في لبنان بالعجز، وفشل سياساتها الاقتصادية وعدم القدرة على إدارة الموارد.
ويطرح الواقع مدى إمكانية استمرار المقايضة في بلد غير منتج اقتصادياً، ويعتمد الريع. لذلك يعتبر عبود أن المقايضة قد توصلنا إلى عصور الآغاوات حين قايض الناس الممتلكات والأراضي بصاع من الطحين أو الطعام.
ويعرب عن تخوّفه من وصول الجهات الإغاثية إلى مرحلة العجز، لأن شريحة المحتاجين في اتّساع مستمر. ويقارن بين المرحلة السابقة التي شهدت ازدهار النشاط الإغاثي، والواقع الراهن، فحالياً يتهدّد الإفلاس بعض أصحاب المؤسسات التي كانت تقدّم الدعم إلى عامة الناس وتنمّي القدرات البشرية. لذلك، فإن المقايضة تعبّر عن بلوغ الأزمة منتهاها، وباتت المساعدات الفردية عاجزة عن تأمين حاجات الفقراء، وإنما من الضروري إيجاد سياسة حكومية عامة لاستدراك الأزمة الحالية.
وعلى الرغم من المخاوف التي تثيرها هذه المبادرة، إلّا أنّ عبود يلفت إلى نواحٍ إيجابية في حال كانت ستُوظّف من الناحية تجارية أو لتجهيزات صناعية تُغني عن الاستيراد من الخارج.
المخرج في الدكانة الاجتماعية
وإزاء الوضع الراهن، بدأت بعض المبادرات بالظهور من ضمنها الدكانة الاجتماعية التي من المتوقع إطلاقها في مدينة الميناء. ويوضح زياد الأيوبي (مغترب لبناني في سويسرا) أن المغترب يشعر بمعاناة أهله، وهاله بلوغ مرحلة المقايضة البدائية التي تؤكد بحث اللبناني عن طرق بديلة لمواجهة الأزمات والتأقلم معها وتخطّي مرحلة الانهيار المالي.
وتقوم فكرة الدكانة الاجتماعية على بيع السلعة للمحتاجين بأسعار بسيطة جداً وليس بأسعار السوق، وهدفها ليس المنافسة وإنما تخفيض الأسعار لفئات معينة. ويشير الأيوبي الذي يعمل منذ سنوات على الخط الإغاثي ومع الأمم المتحدة، إلى أن فكرة الدكانة الاجتماعية تجربة أوروبية رائدة، إذ تعتمدها بعض الدول مثل إنجلترا وفرنسا وسويسرا. وليست الدكانة وليدة اللحظة، وإنما هي مشروع لتأمين التوازن في أي مجتمع فيه فقر.
وبدأت الدكانة بحملة أطلقتها جمعية Shift عبر التواصل الاجتماعي، وواكبتها حملة علاقات عامة مستقلة. وتمكّنت من جمع عشرة آلاف دولار أميركي، تبرّع بها 70 شخصاً من أنحاء مختلفة في العالم، وهذا المبلغ سيشكّل رأسمال التمويل الأولي للمشروع.
ضعف السلطات الرقابية
تتوجه الدكانة الاجتماعية إلى ثلاثة أنواع من الزبائن، الشريحة الأولى هم الزبائن العاديون أي من يشتري بـ"سعر الرف، سعر الكلفة وهامش ربح ضيّق يُستخدم لغايات اجتماعية". أما الشريحة الثانية، فهي الفئة الضعيفة من ذوي الدخول المتدنية التي تتّسع في لبنان. وزبائن هذه الفئة سيحصلون على بضاعة بناءً لبطاقة مدعومة، يتم وضع قوائمها من خلال الجمعيات الموثوقة. وتتضمّن الفئة الثالثة أصحاب بطاقة المساهمين، الذين يشترون ويدفعون زيادة إضافية قليلة، فُستخدم الفرق تالياً لدعم الفئات الأشدّ حاجة.
ويطمح الأيوبي إلى نجاح تجربة الفرع الأول للدكانة، التي ستعمل لبيع حوالى 40 سلعة أساسية، يتم الحصول عليها من مورّدين محليين. بعد ذلك، سيتّجه المسؤولون عن المشروع إلى مرحلة التقييم والبناء عليها من أجل تصحيح العثرات وإنشاء فروع أخرى، وصولاً إلى شبكة متاجر. ويستهجن الأيوبي التلاعب بالأسعار في لبنان، معرباً عن اعتقاده بأنّ سببه ضعف السلطات الرقابية الرسمية التي يجب عليها وضع آليات لكبح الحالات الانتهازية التي تستغلّ الأزمة لتحقيق أرباح أكبر. إلّا أنّه يؤكد في المقابل، أنّ هناك سبباً إضافياً لغلاء الأسعار، يتمثّل في ارتفاع سعر الدولار وانخفاض كمية البضائع المستوردة إلى النصف في ظلّ وجود العدد ذاته من المستهلكين الاقتصاديين.
في المحصّلة وفي عرف علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا، فإنّ المقايضة عودة إلى نمط الحياة البدائية، وهي خروج عن أدبيات السوق. وببساطة، عندما ستفرغ خزاناتهم مِمّا يمكن مقايضته، سيتجهون إلى طرق أخرى للحصول على حاجاتهم الأساسية. لذلك، فإن المواطن يحاول أن يتكيّف مؤقتاً مع الأزمة في انتظار المرحلة الجديدة التي ستفرض نمطاً جديداً من التعامل.