ملخص
مراقبون برروا تراجع قوات "الدعم السريع" خلال الفترة الأخيرة وتقدم الجيش ميدانياً بما تعانيه هذه الميليشيات من فقدان قياداتها بخاصة الميدانيون واستنزاف مواردها البشرية والمادية، فضلاً عن الانتصارات الدبلوماسية للحكومة السودانية في مجلس الأمن باستخدام الفيتو الروسي لإفشال مشروع الدول الداعمة سياسياً وعسكرياً لهذه القوات المتمردة.
أعلن الجيش السوداني اليوم السبت تحرير مدينة سنجة عاصمة ولاية سنار (تبعد 360 كيلومتراً عن الخرطوم باتجاه الجنوب الشرقي، التي سبق أن سيطرت عليها قوات "الدعم السريع" في الـ29 من يونيو (حزيران) الماضي، وذلك بعد معارك ضارية بين القوتين استخدمت فيها جميع أنواع الأسلحة الثقيلة بخاصة المدفعية، فضلاً عن المسيرات.
وقال الجيش في بيان على منصة "إكس" إن "القوات المسلحة السودانية والقوات النظامية الأخرى الآن تسيطر على رئاسة الفرقة 17 مشاة في مدينة سنجة، وهي في الطريق لتطهير كامل تراب الوطن من ميليشيات ’الدعم السريع‘ الإرهابية".
وبث أفراد من الجيش مقاطع فيديو من مواقع عدة في المدينة بخاصة مقر الفرقة 17 ورئاسة حكومة الولاية وغيرها من المواقع المهمة وسط أهازيج من الفرح بهذا الانتصار.
وقال قائد القوات التي سيطرت على المدينة اللواء علي حسن بيلو في مقطع مصور "في هذا اليوم تمكنت القوات المسلحة السودانية والقوات النظامية الأخرى والمستنفرين من المدنيين من تحرير مدينة سنجة حاضرة ولاية سنار، والآن تقوم هذه القوات بعمليات التأمين والتمشيط لإعادة الأمن والاستقرار في المدينة، وستستمر قواتكم على هذا النهج حتى تحرير بقية المدن الأخرى في ولايات الخرطوم والجزيرة ودارفور، وتدمير هذه القوات المتمردة وسحقها تماماً".
وكان الجيش السوداني أعلن أمس الجمعة تحرير مدينة اللكندي وعدداً من المناطق على المحور ذاته بشمال الروصيرص حتى قرية أبو تيقا شمال اللكندي في ولاية سنار.
خطة شاملة
وبحسب الباحث في الشؤون العسكرية والسياسية اللواء معتصم عبدالقادر فإن "تحرير مدينة سنجة عاصمة ولاية سنار يأتي وفقاً لخطة شاملة حاصرت فيها القوات المسلحة قوات الميليشيات المتمردة المتمركزة في ولايات سنار والجزيرة والخرطوم في مساحة واسعة تمتد عبر ولايات عدة تشمل ولاية النيل الأزرق جنوباً وولاية النيل الأبيض غرباً وولاية القضارف شرقاً وولاية نهر النيل جنوباً، وأنه في كل مرحلة كانت المساحات تضيق على الميليشيات خصوصاً بعد الاستهداف المتكرر لكوبري خزان جبل أولياء مما يحرم هذه الميليشيات من فرص الهرب غرباً".
وقال عبدالقادر لـ"اندبندنت عربية" إن "ما تبقى من ولاية سنار هي منطقة قرى مصنع السكر، ويبدو أن غالب هذه المناطق توجد فيها بوادر مقاومة حقيقية لهجمات القوات المسلحة المتتالية مما يبشر بقرب دخولها تلك المناطق".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأرجع تراجع قوات "الدعم السريع" خلال الفترة الأخيرة وتقدم الجيش ميدانياً إلى ما تعانيه هذه الميليشيات من فقدان قياداتها بخاصة الميدانيون واستنزاف مواردها البشرية والمادية، فضلاً عن الانتصارات الدبلوماسية للحكومة السودانية في مجلس الأمن باستخدام الفيتو الروسي لإفشال مشروع بث الحياة في الميليشيات، مما يؤدي إلى إحجام الدول الداعمة سياسياً وعسكرياً لهذه القوات المتمردة. وتابع أن "ميزان القوة في الحرب الدائرة الآن بين القوات المسلحة وميليشيات ’الدعم السريع‘ المدعومة خارجياً مال لمصلحة الجيش منذ منتصف هذا العام، وتمثل في القضاء على قيادات واستسلام آخرين وقطع خطوط وطرق وجسور الإمداد والاستنزاف المستمر للقوى البشرية القادمة من حواضن التمرد".
ولفت الباحث في الشؤون العسكرية والسياسية إلى أن كل المؤشرات إلى المستوى العسكري والدولي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي تشير إلى قرب نهاية الميليشيات بولايتي الوسط (الجزيرة والخرطوم)، كذلك فإن الميليشيات تُمنى بخسائر متواصلة في دارفور.
كر وفر
في حين اعتبر الأمين العام للقيادة المركزية العليا لضباط الصف والجنود السودانيين المتقاعدين "تضامن" المقدم محمد نور أن ما حدث في سنجة هو انسحاب تكتيكي من قبل قوات "الدعم السريع"، إذ إن الأخيرة غيرت من تكتيكاتها واستراتيجيتها حيث أصبحت "حرب عصابات بامتياز، عبارة عن كر وفر".
وبين نور أن "الدعم السريع" تعمل حالياً على الابتعاد من المناطق والمساحات القريبة من سيطرة الجيش أي بعدم التمسك بالأرض حتى لا تفقد أعداداً كبيرة من قواتها وعتادها.
ونوه بأن ما حدث من استعادة لمدينة سنجة شيء متوقع وهو السيناريو نفسه الذي حدث في أم درمان، عندما انسحبت قوات "الدعم السريع" من مقر الإذاعة والتلفزيون ومواقع كثيرة أخرى حتى لا تقع في المصيدة.
ولفت الأمين العام للقيادة المركزية العليا لضباط الصف والجنود السودانيين المتقاعدين إلى أن "هذا الانتصار لا يعد نجاحاً يؤدي لإيقاف هذه الحرب ولا يقود لحسمها عسكرياً من قبل أي من الطرفين، فما يحدث الآن في هذه الحرب هو مناورات عسكرية تطيل أمدها، إذ إن كل طرف يعمل على إظهار انتصاراته في أوقات متباعدة، لكن لا يوجد أي مؤشر إلى أنه ستكون هناك عملية عسكرية مؤثرة وحاسمة، فكل ما يجري هو حرب إعلامية فقط".
معارك ضارية
وكانت مصادر عسكرية أشارت إلى أن الجيش سيطر على مداخل ومخارج سنجة، بعد معارك ضارية ضد "الدعم السريع" استخدمت فيها المسيرات والقصف المدفعي.
وبحسب تلك المصادر فإن الجيش وحلفاءه تقدموا، بعد السيطرة على سنجة، إلى مناطق شرق المدينة وإلى الدالي والمزمزم وأبو حجار من أجل استعادة السيطرة عليها.
واستطاع الجيش تحرير سنجة، بعد تحريك قواته من الدندر والسوكي وسنار والنيل الأزرق، إذ تحركت ببطء نحو المدينة مستعيدة البلدات والقرى إلى أن أحكمت قبضتها على سنجة.
ونجحت القوات المسلحة في الخامس من أكتوبر (تشرين الأول)، في قطع طريق إمداد "الدعم السريع" بتحريره سلسلة جبال موية، إذ عملت الأخيرة على إنشاء قاعدة عملياتية بعد سيطرتها على المنطقة في يونيو الماضي.
وحرك "الدعم السريع" قواته من جبل موية لاجتياح معظم مناطق سنار، قبل أن يستعيد الجيش السيطرة على بعضها مثل الدندر والسوكي واللكندي وأخيراً سنجة، فيما لا تزال قوات "الدعم السريع" توجد في قرى غرب الدندر وكركوج والدالي والمزموم.
موقع استراتيجي
تقع مدينة سنجة في وسط السودان، وتحديداً في ولاية سنار، على الضفة الغربية لنهر النيل الأزرق، إذ يحدها من الشمال مدينة سنار، ومن الشرق النيل الأزرق، ومن الجنوب ولاية النيل الأبيض، ومن الغرب سهول كردفان. وتتميز بموقعها الاستراتيجي الذي يجعلها نقطة تواصل مهمة بين مختلف مناطق السودان، ويسهم في تطويرها كمدينة تجارية وزراعية رئيسة.
وتبلغ مساحتها 750 كيلومتراً مربعاً، وتعرف المدينة بتنوع النشاط الزراعي وبثرواتها الحيوانية ومواردها المائية، وتضم 5 ملايين فدان تعتمد في زراعتها على التساقطات المطرية، ونحو 400 ألف فدان من الأراضي المروية بمياه النيل، وتزرع فيها أنواع متعددة من الفاكهة أبرزها المانغو والليمون والموز والجوافة، وتوجد فيها أكبر محطة لتصدير الفاكهة.
وتقدر ثروتها بنحو 12 مليون رأس من الماشية، وتتوفر على ثروة غابوية مهمة، ومن أبرز غاباتها غابة القعرة وغابة العزازة اللتان تنتشر فيهما أشجار الطلح والهشاب (الشجر الذي ينتج الصمغ العربي) مما جعلها معروفة بصناعة الأثاث المنزلي.
ويشهد السودان منذ الـ15 من أبريل (نيسان) 2023 حرباً دامية بين الجيش بقيادة عبدالفتاح البرهان وقوات "الدعم السريع" بقيادة محمد حمدان دقلو "حميدتي"، أدت بحسب الأمم المتحدة إلى مقتل قرابة 20 ألف مواطن ونزوح نحو 10.7 مليون شخص منهم 9 ملايين داخل البلاد، بينما فر 1.7 مليون إلى دول الجوار، مما جعل السودان بؤرة لأكبر أزمة نزوح في العالم. ويواجه قرابة 26 مليون شخص في السودان مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي الحاد.
العد التنازلي للمجاعة
في سياق متصل قال رئيس المجلس النروجي للاجئين، يان إيغلاند، في مقابلة أجرتها معه السبت وكالة الصحافة الفرنسية، إن السودان الذي يشهد حرباً مدمرة يتجه نحو "مجاعة بدأ عدها التنازلي" ويتجاهلها قادة العالم، في حين تقتصر قدرات المساعدات الإنسانية على "تأخير الوفيات".
وشدّد إيغلاند في المقابلة التي أجريت معه في تشاد عقب زياته السودان هذا الأسبوع، "لدينا في السودان أكبر أزمة إنسانية على هذا الكوكب، أكبر أزمة جوع، أكبر أزمة نزوح... والعالم لا يبالي".
وقال إيغلاند "قابلت نساء هن بالكاد على قيد الحياة، يتناولن وجبة واحدة من أوراق النباتات المسلوقة يومياً".
ويقول المجلس النروجي للاجئين، إحدى المنظمات القليلة التي تواصل عملياتها في السودان، إن نحو 1.5 مليون شخص هم "على شفير المجاعة".
وتابع إيغلاند "العنف يمزق المجتمعات بوتيرة أسرع بكثير من قدرتنا على إيصال المساعدات". وأضاف "فيما نكافح من أجل الاستجابة لذلك، فإن مواردنا الحالية تؤخر الوفيات بدلاً من منعها".
وقال إيغلاند "من غير المعقول أن تستحوذ الأزمة في السودان حالياً على جزء يسير من الاهتمام الذي استحوذت عليه قبل 20 عاماً بالنسبة لدارفور، عندما كانت الأزمة في الواقع أصغر بكثير".
وقال إن حربي إسرائيل في غزة ولبنان وحرب روسيا مع أوكرانيا ألقت بظلالها على النزاع في السودان.
لكنه أشار إلى أنه رصد تحوّلاً في "المزاج الدولي" بعيداً من نوع الحملات التي يقودها مشاهير والتي جلبت نجم هوليوود جورج كلوني إلى دارفور في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
وتحدّث عن "ميول أكثر قومية وأكثر تطلعاً إلى الداخل" لدى حكومات غربية يقودها سياسيون يضعون في المقام الأول "أمتهم، وأنفسهم وليس البشرية".
وندّد بمسؤولين "قصيري النظر" سيدفعون ثمن مواقفهم عندما يتدفق أولئك الذين لم يساعدونهم إلى بلادهم لطلب اللجوء أو بصفة مهاجرين غير نظاميين.
وقال إنه التقى في تشاد بشبان نجوا من التطهير العرقي في دارفور وقرروا عبور البحر الأبيض المتوسط لمحاولة الوصول إلى أوروبا رغم غرق أصدقاء لهم سبقوهم في المحاولة.
وترزح مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، منذ أشهر تحت وطأة حصار تفرضه قوات الدعم السريع، ما أدى إلى تعطيل جميع عمليات الإغاثة في المنطقة تقريباً وتسبب بمجاعة في مخيم زمزم القريب للنازحين.
لكن حتى المناطق التي هي بمنأى من دمار الحرب "بدأت تعاني الأمرين"، وفق إيغلاند. ففي كل أنحاء الشرق الذي يسيطر عليه الجيش، تكتظ المخيمات والمدارس والمباني العامة الأخرى بالنازحين الذين تُركوا لتدبّر أمورهم بأنفسهم.
وفي ضواحي بورتسودان، المدينة الواقعة على البحر الأحمر حيث تتّخذ الحكومة المدعومة من الجيش ووكالات الأمم المتحدة مقرا، قال إيغلاند إنه زار مدرسة تؤوي أكثر من 3700 نازح حيث لم تتمكن الأمهات من إطعام أطفالهن.
وقال "كيف يعقل أن الجزء الذي يسهل الوصول إليه في السودان يشهد جوعاً؟". وأضاف إيغلاند "الجوع المستمر هو مأساة من صنع الإنسان... كل تأخير، وكل شاحنة يمنع وصولها، وكل تصريح يتأخر هو حكم بالإعدام على عائلات لا تستطيع الانتظار يوما آخر للحصول على الطعام والماء والمأوى".
لكنه قال إنه رغم كل العقبات "من الممكن الوصول إلى كل أصقاع السودان"، داعياً المانحين إلى زيادة التمويل ومنظمات الإغاثة للتحلي بمزيد من "الشجاعة". وأضاف أن "أطراف النزاعات متخصصون في إخافتنا ونحن متخصصون في الخوف". وحضّ الأمم المتحدة ووكالات أخرى على "التحلي بقوة أكبر" وطلب تمكينها من إيصال مساعداتها.