حتى الآن، لا يوجد ما يشير إلى قرب انفراج أزمة كورونا، وبالتالي فإن المعطيات القائمة تؤكد أن ديون العالم التي وصلت بالفعل إلى مستويات قياسية وتاريخية ستواصل الارتفاع مع عدم وجود بدائل أخرى لتمويل إنفاق الحكومات على القطاع الصحي بسبب استمرار جائحة كورونا.
وتعتبر مشكلة تفاقم الديون، الحكومية والخاصة، أحد التحديات الصعبة التي تواجه الاقتصاد العالمي في الوقت الراهن، لا سيما أن الديون وصلت إلى مستويات استثنائية لم تبلغها من قبل، كما أن أزمة كورونا تدفعها إلى الزيادة بمعدلات مرتفعة، ما يضعها على الطريق نحو نهاية لم تصلها من قبل أيضاً.
وفي مواجهة ذلك، فإن دول العالم مطالبة بفعل الكثير، للحيلولة دون وصول مديونياتها إلى مستويات لا يمكن للاقتصادات التعايش معها، ولحماية ما أنجزه البشر من تقدم اقتصادي، قبل أن ينحدر العالم إلى أزمة مالية لا نظير لها، تأتي على تلك المكتسبات، وتدفع ملايين البشر من جديد نحو الفقر؛ مع الأخذ في الاعتبار أن ذلك لن يكون قاصراً على الدول الأشد فقراً أو الفقيرة أو متوسطة الدخل، بل إنه يشمل كذلك الدول الغنية، والأكثر تقدماً.
تدخلات غير مسبوقة من قبل الحكومات
في تقرير حديث، حذر بنك الاستثمار الأميركي "غولدمان ساكس" من ارتفاع حجم الديون العالمية لمستويات تقترب من المستويات المحققة إبان فترة الحرب العالمية الثانية، نتيجة التدخلات غير المسبوقة من قبل الحكومات لتحجيم الأضرار الاقتصادية الناجمة عن تفشي جائحة كورونا.
ورأى متخصصون بالبنك، أن القفزة المسجلة في حجم الديون العالمية حالياً تثير عدداً من التساؤلات المهمة حول كيفية تقاسم الدول أعباء الديون وكيف ستؤثر زيادة عملية إصدار السندات في مسار الأسواق، وعلى النمو الاقتصادي العالمي؟.
وشهدت الأعوام الأخيرة تحذيرات من قبل العديد من الاقتصاديين ممن يرون أن تزايد حجم الديون مقابل الناتج الإجمالي للدول لا يهدد فقط باندلاع أزمة مالية، بل يضر بآفاق النمو الاقتصادي إلى حد بعيد. ومع ذلك يرى بعضهم أن الاقتراض كان ضرورة حتمية من أجل مواجهة التبعات الكارثية لجائحة كورونا على الاقتصادات العالمية.
وذكر التقرير أنه لا توجد مشكلة في أن تحاول دوائر صنع القرار أن تدبر أمرها من أجل مواجهة أزمة بحجم جائحة كورونا وطرح حزم إنقاذ هائلة في سبيل تحجيم أضرارها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كان معهد التمويل الدولي قد ذكر في تقرير الشهر الماضي، أن أزمة تفشي فيروس كورونا، تسببت في مضاعفة حجم الديون الحكومية على مستوى العالم، إلى مستوى غير مسبوق بلغ 2.6 تريليون دولار خلال شهر أبريل (نيسان) الماضي فقط.
وأوضح المعهد أن إجمالي الإصدارات من الديون الحكومية وصلت إلى مستوى قياسي بلغ 2.6 تريليون دولار خلال أبريل الماضي، مقابل نحو 2.1 تريليون في مارس (آذار) الماضي. وأوضح أن إجمالي إصدارات الحكومة الأميركية من أدوات الدين بلغ 1.4 تريليون دولار من إجمالي الرقم العالمي المسجل خلال أبريل، ونحو 1.2 تريليون خلال مارس، بعد أن أقر الاقتصاد الأكبر عالمياً أضخم حزمة دعم مالي بقيمة تريليوني دولار من أجل مجابهة صدمة كورونا الاقتصادية.
وأشار التقرير إلى أن التداعيات الاقتصادية الناجمة عن تفشي الجائحة وتدابير الإغلاق التي تسببت في توقف تام لعجلة الاقتصاد العالمي، أجبرت الحكومات على الإسراع بتخصيص حزم دعم مالي ضخمة لمساعدة الفئات المنكوبة وتفادي انهيار اقتصادي، ما شكل عبئاً اقتصادياً على ميزانياتها وزاد من حجم إصدارات الديون بهذه الوتيرة غير المسبوقة.
100 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي
كان صندوق النقد الدولي قد توقع أن يتجاوز الدين العام العالمي مستوى 100 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام للمرة الأولى على الإطلاق. وقال إن عبء الديون العالمية سيرتفع بنحو 19 نقطة مئوية خلال العام الحالي وحده، وهو ما يفوق حجم الزيادة المسجلة في الديون العالمية عام 2009، خلال الأزمة المالية، إذ بلغت الزيادة 10 نقاط مئوية فقط.
وتعتبر الزيادة المرجح حدوثها في الديون العالمية هذا العام مبررة إلى حد بعيد، في ظل الإنفاق الحكومي الطارئ والواسع، الذي يهدف إلى تجنب الآثار الاقتصادية والاجتماعية، ناهيك عن الآثار الصحية لوباء كورونا.
ووفق تقديرات صندوق النقد الدولي، فقد أنفقت الدول نحو 10 تريليونات دولار حتى الآن، لتحقيق هذه الغاية. وبالطبع، فإن هذه النفقات مرشحة إلى الزيادة خلال الشهور المقبلة، وقد تتضاعف، في حال عودة الوباء إلى الانتشار بمعدلات كبيرة في موجة ثانية من الإصابات، التي قد تكون الزيادات الأخيرة في الإصابات الجديدة بالولايات المتحدة وأميركا الجنوبية وبعض الدول الأوروبية ليست إلا بدايتها.
وما يزيد من أخطار أزمة الديون، هو أن التوجه العالمي يدفع نحو التوسع في الاستدانة، فعلى الرغم من العبء المالي المتضاعف للنفقات التي نفذتها الحكومات حول العالم منذ بداية الأزمة، فإن صندوق النقد الدولي ينصحها بعدم وقف أي برامج للدعم والتحفيز المالي للاقتصاد، ويرى أنه إذا توقفت تلك البرامج فإن ذلك سيُولِّد موجات إفلاس عالمية واسعة، وسيلحق أضراراً جسيمةً بالوظائف والدخول. ومثل هذا التوجه من شأنه أن يدفع نحو تزايد الديون العالمية بنسب مضاعفة خلال الشهور المقبلة لا محالة. وحسب تقارير عديدة، فإن أكثر من 100 دولة في العالم تقدمت بطلبات تمويل لصندوق النقد الدولي.
الأزمة أكبر في الدول المتقدمة
وتشير دراسة حديثة لمركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، إلى أن هناك وجهاً آخر للمشكلة، يتعلق بأن الديون تتركز بشكل واضح في الدول الغنية والمتقدمة، إذ إن الدول العشر الأولى من حيث حجم المديونية، وجميعها دول متقدمة وغنية، تستحوذ على نحو 61 تريليون دولار من إجمالي الديون العالمية، التي تناهز نحو 87 تريليون دولار بنسبة تزيد على 70 في المئة منها.
وتستحوذ الولايات المتحدة بمفردها على ما يقارب ربع المديونية العالمية ككل، وهذا يشير إلى حجم الأعباء التي تتحملها تلك الاقتصادات لخدمة تلك الديون، التي تمثل مشكلة بالنسبة للبعض منها بالتأكيد، لا سيما لاقتصادات مثل إيطاليا وإسبانيا.
وإذا كانت اقتصادات الدول المتقدمة والغنية تتحمل العبء الأكبر من المديونية على هذا النحو، لكنها في الوقت نفسه تظل عرضة للمخاطر المرتبطة بديون الدول الفقيرة والأشد فقراً. فالدول المتقدمة والغنية هي نفسها أكبر الدائنين للدول الفقيرة والأشد فقراً، سواءً كان من خلال حكوماتها أو عبر المؤسسات المالية، أو حتى من خلال مساهمتها في المؤسسات الدولية، وبالتالي، فإنه في حال إفلاس عدد من الدول الفقيرة، فإن ذلك سيفقد اقتصادات الدول الدائنة الكثير من أموالها، إذ إنها ستكون في هذه الحالة مضطرة للتنازل عن بعض أو كل ديون الدول المفلسة. وقد شهدت الشهور الأخيرة مبادرات عالمية تدعو إلى ذلك، كالمبادرة التي تتبناها دول مجموعة العشرين بالتعاون مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، التي تسعى إلى تأجيل أقساط ديون الدول الأشد فقراً، أو التنازل عن جزء منها، كآلية لدعم هذه الدول في مواجهة تداعيات كورونا.
تداعيات خطيرة للاعتماد على الاقتراض
التقرير أشار إلى أنه إذا كانت الدول والحكومات مطالبة بالمزيد من الإنفاق لدعم وتحفيز الاقتصاد في مواجهة الوباء، وتداعياته الاقتصادية والاجتماعية، فإنها لا بد أن تعي أن الاعتماد على الاستدانة لتأمين الأموال اللازمة، لذلك يجب أن يكون هو خيارها الأخير. وقبل أن تفكر الحكومات، لا سيما في الدول ذات الهوامش المالية الضيقة، في الحصول على قروض جديدة، من الخارج أو الداخل، فإنها مطالبة بالقيام بالعديد من الخطوات قبل ذلك، للحد من فرص تضخم مديونياتها بشكل مبالغ فيه.
أولى هذه الخطوات تتمثل في مراجعة أولويات الإنفاق، والعمل بمشروعات مؤقتة للموازنات، تتناسب وطبيعة المرحلة، يكون تركيزها الأساس منصباً على تسطيح منحنى الأزمات الاقتصادية، والحد من التسريح المبالغ فيه للعمالة، ومساعدة الفئات الاجتماعية الأشد فقراً؛ كما أن الدول ملزمة بسد القنوات التي تتسرب إليها الأموال، لا سيما الفساد المالي، الذي يستهلك معظم ميزانيات المشروعات بالعديد من البلدان.
ويأتي تعزيز المصادر البديلة للدخل والإيرادات، كإحدى الخطوات المهمة التي يجب الاضطلاع بها من قبل الدول، لا سيما بعد أن انقطعت أو تراجعت إيراداتها من الأنشطة الاقتصادية المرتبطة بالعالم الخارجي. كما يبرز في هذا السياق أيضاً دور صناديق الثروة السيادية ذات رؤوس الأموال الكبيرة، وذات النشاط الدولي الواسع، حيث تستطيع الدول التي تمتلك تلك الصناديق دفعها إلى زيادة المكون المحلي في حافظاتها الاستثمارية، بما يحقق لها عوائد استثمارية جيدة، كونها ستشتري الأصول المحلية بقيم منخفضة في وقت الأزمة؛ وبما يساعد في الوقت ذاته، الاقتصاد الوطني على التعافي بأسرع من المتوقع، وأسرع منه في حال اعتمد فقط على الأموال التي تنفقها الحكومات بشكل مباشر.
وفي حال استنفدت الدول الوسائل والآليات المتاحة لتعظيم الاستفادة مما لديها من موارد مالية، ومازال لديها احتياج للاقتراض، فلا بد من أن تجتهد في تأمين القروض الميسرة، سواءً من حيث أسعار الفائدة أو فترات السماح أو حتى آجال السداد.
كما أنها مطالبة في الوقت ذاته بإنفاق أموال القروض التي تحصل عليها، ليس في معالجة مشكلات مزمنة في الاقتصاد، بل في التركيز على تلبية الاحتياجات الطارئة والنابعة من ظروف الأزمة، بما يمكنها من منع تفاقم المشكلات المالية والاقتصادية، إلى أن تنتهي الأزمة، ويعود الاقتصاد إلى النمو، بالشكل الذي كان عليه في سنوات ما قبل الأزمة. وفي كل الأحوال، فإن جميع الدول في حاجة إلى تبني سياسات مالية منضبطة وفعالة، تساعد على تجنب الاضطرابات الشديدة في الدورات الاقتصادية مهما كانت الظروف.