هل تتذكرون فيلم الإيرانية المهاجرة مبريام ساترابي "برسبوليس"، الذي أثار قبل سنوات قليلة ثائرة السلطات الإيرانية حين عُرض في مهرجان "كان" السينمائي، ثم ثائرة السفارة الإيرانية في بيروت وملحقاتها حين أُعلن عن عرضه في لبنان، فكانت النتيجة أن قُرصنت منه عشرات ألوف النسخ وانتشرت رغم منعه وكانت القرصنة تحديداً في ضاحية بيروت الجنوبية؟
حسناً ليس هذا موضوعنا هنا. موضوعنا هو العالمة الكبيرة الفرنسية ماري كوري، التي حققت عنها المخرجة ساترابي فيلماً تأجل عرضه بسبب الحجر الصحي، لكن من المؤكد أن العرض سيكون في الخريف المقبل، لينضم إلى ثلاثة أفلام أخرى تتحدث الصحافة الفرنسية على أنها باتت "رصيد أفلام ماري كوري" خلال السنوات الأخيرة دون أن تذكر واحداً من الأفلام المميّزة التي حققها المخرج الأميركي ميرفين لوروا من بطولة غرير غارسون عام 1943 في هوليوود اقتباساً عن رواية حول الموضوع نفسه كانت صدرت عام 1938 في أميركا لإيف كوري بعنوان "مدام كوري".
صحيح أن هذا الفيلم الهوليوودي تجنب قدر المستطاع الإشارة إلى المواقف السياسية أو التركيز على الطفولة الباريسية المتواضعة التي عاشتها ماري كوري في فرنسا، وبالكاد أعطى دلالة لكونها مهاجرة من أصل بولندي، مركزاً فقط على الجانب العلمي من شخصيتها وزواجها من العالم الفرنسي الفيزياني بيار كوري، ما أبدل اسمها من ماريا سلودوفسكا إلى ماري كوري، غير أنه في الجانب الذي اختاره من سيرة حياتها واللحظات التي تمكنت فيها العالمة من اكتشاف المادتين الأساسيتين، اليورانيوم والبلاتينيوم، أدى غرضه بمهارة مدهشة، وإنْ على الطريقة الهوليوودية دون أن ينسى طبعاً زراعة مشهد ميلودرامي وبعض الأحزان والخيبات العارضة هناك.
مهاجرتان في عمل واحد
في المقابل، ما نُمي عن فيلم ساترابي وعنوانه "الأشعة"، اقتباساً من رواية استندت إلى الكتاب الذي وضعته ماري كوري عن نشاطها العلمي، يشير إلى أنها تركز فيه على الجوانب التي "سهت" عن بال السيناريو الذي اقتبسه عدد من الكتاب لفيلم ميرفن ليروا، بينهم الكاتب ألدوس هاكسلي، الذي لا يرد اسمه في عناوين الفيلم لأسباب غير واضحة.
المهم أن ساترابي تركز في فيلمها على كون ماريا كانت في الأصل مهاجرة، وأن كونها غريبة على هذا النحو عاشت وعملت في مجتمع تبناها، هو أمر لعب دوراً أساسياً في نجاحها العلمي والعملي. ولسنا بحاجة إلى تخمين زائد عن حدّه هنا، كي نكتشف البعد الذاتي في هذا الجانب الذي تناولته المخرجة الإيرانية المبدعة من حياة ومسار تلك العالمة التي تبدو هنا كمثل أعلى لها ولكن كشقيقة في الهجرة والغربة أيضاً. فنحن نعرف، وتحديداً من خلال فيلم "متروبوليس" أن حكاية ساترابي تكاد تكون صورة من حياة ماري كوري. لا سيما من ناحية الهجرة قسراً من الوطن الأم (إيران هنا وبولندا هناك) تحت ظل أوضاع قمعية مشابهة واحتضان المجتمع المضيف (فرنسا في الحالين) متيحاً الفرصة لكل منهما كي تحقق ذاتها وتبدع كلّ واحدة في مجالها.
نقول هذا منذ الآن وننتظر مشاهدة الفيلم للحكم النهائي على الصورة التي نفترضها. وفي انتظار ذلك نتذكر دائماً غرير غارسون، التي لعبت الدور لدى مرفين لوروا، التي أطلقت في اتجاه العالم كله يومها حكاية امرأة استثنائية أدهشت ذلك العالم، مؤكدة حسب قول غارسون نفسها تعليقاً على الدور، "أن في إمكان المرأة أن تفعل المعجزات حيت تُعطى فرصاً متكافئة" معلنة أنها يمكنها أن تلعب الدور مجدداً إن تنطحت امرأة لتحقيق فيلم جديد عن الشخصية نفسها.
خطوة فرانسوا ميتران الجريئة
مهما يكن من أمر نعرف أن ماري كوري هي اليوم المرأة الوحيدة التي ترقد في المثوى الأخير، إلى جانب كبار الرجال الذين كانت لهم اليد الطولى في صناعة المجد الفرنسي على طول الزمن: في مقبرة البانتيون وسط العاصمة الفرنسية، إذ منذ سنوات، وفي خطوة مميّزة كانت واحدة من آخر الخطوات الجريئة التي أقدم عليها الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا ميتران، تم نقل رفاة ماري كوري من قبرها المتواضع إلى البانتيون، فكان في ذلك آخر تكريم أسدته فرنسا لواحدة من عبقريات قرننا العشرين هذا. ولئن استغرب بعض الناس في ذلك اليوم وجود الرئيس البولندي ليش فاليسا، في مقدمة حضور الاحتفال المهيب الذي أقيم للمناسبة، فإن استغرابهم سرعان ما خبا حيث تذكروا أن ماري كوري كانت، كما حال عدد كبير من كبار الرجالات والنساء الذين عرفتهم فرنسا طوال تاريخها، من أصل بولندي. ومن هنا اعتبر التكريم ثلاثياً؛ تكريم للعلم في شخص واحدة من كبار علماء زمننا، وللمرأة في عالم اعتاد فيه الرجال على تكريم أنفسهم، وأخيراً لأولئك "الغرباء" الذين لم يتوقفوا عن مد فرنسا بالعقول الجبارة، والقوى الفاعلة.
على أية حال فإن العالم لم ينتظر نقل الفرنسيين رفاة ماري كوري إلى المثوى الأخير في "البانتيون" حتى يكرم تلك السيدة التي عاشت للعلم وأفنت حياتها في سبيله. إذ إنها نالت أكبر جائزتين عالميتين قبل وفاتها بزمن طويل؛ جائزة نوبل للفيزياء 1903، وجائزة نوبل للكيمياء 1911.
ولعل أروع ما في سيرة ماري كوري أنها حين رحلت عن عالمنا في عام 1934 وكانت في السادسة والستين من عمرها، إنما رحلت ضحية لواجبها ولعملها العلمي، حيث إن اشتغالها على المواد المشعة، في زمن كانت فيه الوقاية من مخاطر تلك المواد لا تزال بدائية، أدى إلى إصابة أنسجتها العضوية بوهن وبأمراض انتهت بالقضاء عليها. ومن هنا ما قيل يومها من أن تلك السيدة الهادئة والمتواضعة عاشت للعلم وماتت في سبيله، وأضاف الكثيرون؛ بمعنى أنها عاشت من أجل تقدم الإنسانية وماتت في سبيل ذلك.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
امرأة بين العظماء
وهذا ما جعل لماري كوري تلك المكانة الكبرى بين عظماء هذا الزمن. ولكن، قبل رحيلها بأربعين عاماً، هل كان أحد يعتقد بأن تلك الشابة البولندية ذات النظرات الحييّة والصوت الهادئ، ستكون شيئاً ما، بل ستكون واحدة من كبار علماء العصر؟
حين أتت الشابة ماريا سكلودوفسكا لتقيم في فرنسا وهي في الخامسة والعشرين من عمرها، كانت مجرد طالبة وباحثة شابة يميزها نهم إلى كل ما له علاقة بالعلم وتوق إلى سلوك كل الدروب التي تؤدي إلى التقدم. كانت مجرد شابة باحثة، قلقة، وفضولية لا أكثر، حين تزوجت من زميلها الفرنسي الشاب بيار كوري، الذي كان لا يقل حماسة عنها لكل ما له علاقة بالفيزياء.
في ذلك الحين كان العالم هنري بيكيريل قد اكتشف ما في مادة اليورانيوم من إشعاعات، وأثار الاكتشاف فضول وحماسة ماري وبيار كوري فواصلا العمل الذي بدأه بيكيريل حتى توصلا معاً إلى اكتشاف مادة الراديوم المشعة، وكان ذلك في 1898، فاعتبر الاكتشاف خطوة علمية كبرى، خصوصاً أن التطبيقات العملية لذلك الاكتشاف سرعان ما بدأت بشكل كان يرمي أول الأمر لخدمة البشرية.
ومن هنا لم تكن مفاجأة لأحد أن يقدم ملك السويد في 1903 على منح جائزة نوبل لبيكيريل وماري وبيار كوري معاً، معلنا الخير الذي سيعم البشرية جراء تمكن الزوجين الشابين، بخاصة، من فصل البلوتونيوم ثم الراديوم ثم الثوريوم على التوالي.
بدلا من الحزن
في 1906 مات بيار كوري مكللاً بالمجد وبكته ماري كثيراً، لكنها بدلاً من أن تخلد إلى الحزن واليأس راحت تواصل الرسالة، لتصدر في 1910 مؤلفها الرئيس "دراسة الإشعاع"، الذي اعتبر واحداً من المؤلفات العلمية الأساسية في زمنه. وهي عادت لتنال بعد ذلك نوبل ثانية في الكيمياء هذه المرة بسبب اكتشافاتها الجديدة المتعلقة بالراديوم والبلوتونيوم، فكانت من العلماء القلائل الذين نالوا تلك الجائزة مرتين. ولقد كرست ماري كوري بعد ذلك، وحتى رحيلها، حياتها وأوقاتها للعلم بحيث ارتبط باسمها وارتبطت باسمه.