Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

وحدة الدولة السورية

هذا البلد الذي أحاطت به المؤامرات عبر التاريخ لا يجب أن يظل مرة أخرى مرتعاً للمغامرين والعابثين والإرهابيين

جنازة الناشط السوري مازن الحمادة الذي عثر على جثته مؤخراً في العاصمة دمشق (أ ف ب)

ملخص

لن تستقيم الأمور أبداً إلا بدولة عصرية حديثة تخرج من عباءة الماضي وتلفظ الطائفية والعنصرية وتشجب التعصب وتؤمن بأنه لا توجد فوارق بين أتباع الديانات، فالكل في هذه المنطقة من العالم يعبد الله الواحد الأحد ولا يجب أبداً أن نستغرق في التقسيمات والتفريعات، فتضيع الحقوق وتختفي الثوابت في عالم مضطرب، فلدينا القضية الفلسطينية بأبعادها المأسوية ولدينا ظروف محيطة عدة تنذر بالكوارث في أي وقت.

قلبي مع الشعب السوري الشقيق منبع القومية العربية ومصدر الأفكار الوحدوية، بدأ عز الشرق بعاصمته كما قال أمير الشعراء "وعز الشرق أوله دمشق"، نعم أقول قلبي مع الشعب السوري الذي شهد من المعاناة ما يقترب من معاناة شعوب عربية أخرى مثل فلسطين ولبنان والعراق حتى أصبح المشرق العربي مرجلاً يغلي بالتطورات الساخنة والأحداث العاصفة، نعم لقد سقط نظام الأسد الذي لا يأسف عليه أحد، فقد قمع الحريات وحاول عزل سوريا عن أمتها العربية والارتماء في أحضان إيران الفارسية، ولأنني لست عنصرياً بالطبيعة فإنني أرى أن حسابات الدبلوماسية السورية في عهد الأسدين حافظ وبشار لم تكُن مدروسة، بل قامت على أسس من العناد والصراع الحزبي المقيت داخل حزب البعث بجناحيه السوري والعراقي، فضلاً عن الخلافات الشخصية والمنافسات القطرية، وجاءت التغييرات الأخيرة لكي تطرح السؤال الكبير، سوريا إلى أين؟!.

لدينا هنا بعض الملاحظات التي يمكن أن تساعد على فهم طبيعة الأمر واستحضار الحقيقة، ومن بينها ما يلي:

 أولاً، إن الحركة القومية التاريخية ارتبطت بالقطر السوري في الداخل وفي المهجر أيضاً، فمنذ عهد معاوية وابنه يزيد وصولاً إلى عهد حافظ الأسد وابنه بشار، عرفت سوريا ألواناً من الحكم وأنماطاً من السيطرة وكانت دائماً دولة محورية حضارياً وثقافياً وعروبياً وقومياً، وشهدت عاصمة الأمويين انتفاضات متوالية وانتصارات متتالية وعرفت سوريا الآلام والمتاعب والمصاعب وبقيت دائماً ترفع شعارات البطولة ونداءات الوحدة إلى أن ابتلاها الله في النصف قرن الأخير بنظام يتحدث أكثر مما يفعل ويتخذ موقفاً طائفياً علوياً بدلاً من أن يكون صاحب نظرة عروبية شاملة كاملة.

ولقد عانى السوريون في العقود الأخيرة ما لا يدركه عقل. أقول ذلك وأنا لا أصدق ما شاهدته مما كان يجري في سجن صيدنايا على سبيل المثال وغرف التعذيب التي يفوق تصورها الخيال والإعدامات التي تنتهي باختفاء البشر حتى لا يكون لهم أثر، وما زلت أتذكر جريمة اغتيال الكاتب الصحافي الراحل سليم اللوزي الذي كان رئيس تحرير مجلة "الحوادث" اللبنانية وجرى اعتقاله وهو في طريق العودة لدمشق عندما تم إبلاغه بمرض والدته، فكان لا بد من أن يحضر على رغم أنه على قوائم الانتظار والترقب، وهذا ما جرى فأوقفته عصابات التعذيب وأقامت عليه حفل إزهاق الروح لساعات عدة من التعذيب الإجرامي لأن سيد دمشق لا ينسى أن ذلك الكاتب الصحافي تناوله بشيء من النقد في مطبوعته الصحافية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 ثانياً، أتذكر الآن الحكمة العربية "كالمستجير من الرمضاء بالنار" لأن ثوار إدلب وما حولها يمثلون هويات مختلفة ومنطلقات فكرية متعددة، لكن يغلب عليها طابع ديني ولا بأس من ذلك إذا كان معتدلاً ووسطياً ولا يعرف التعصب والدماء والأشلاء، لكن ليست لدينا ضمانات حقيقية حول تاريخ القادة الجدد ومنطلقاتهم الفكرية ومعتقداتهم الحالية، إذ يبدو الأمر كما لو أننا استبدلنا النفوذ الإيراني بنفوذ تركي جديد بمظلة سنية قد تدخل في صراع مع بقايا المظلة الشيعية.

أقول ذلك ويدي على قلبي لأن الشعب السوري الشقيق الذي عانى كثيراً طوال الأعوام الماضية هو وغيره من شعوب المنطقة يتطلع إلى الاستقرار والسلام والتنمية والازدهار، وعلى رغم أن الجيش السوري الباسل كان علامة مضيئة في التاريخ العربي المعاصر، فإن الذين أطفأوا أنوار دمشق واستحلوا دماء شعبها وأقوات أبنائها حوّلوا الوطن السوري الذي كان مأوى للاجئين إلى مصدّر لهم، فضلاً عن ملايين النازحين من معسكر إلى آخر على أطراف الدولة السورية التي تستحق أفضل مما عرفت بعشرات المرات.

وبدا حكم الأعوام الأخيرة وكأنه تجسيد للمقولة الخالدة "أسد علي وفي الحروب نعامة!"، فلزم الأسد الابن الصمت الكامل وارتمى في أحضان طهران وطلب الدعم دائماً من موسكو وظل بعيداً من شعبه وأمته معزولاً عن قوميته، فكانت النتيجة تمزيق الكيان السوري وتقطيع أوصال تلك الدولة العربية العزيزة على قلوبنا جميعاً. فالشعب السوري شعب أبيّ ذو كبرياء وكرامة ولن أنسى أنني في أحد الأيام كنت أمر بسيارتي في أحد شوارع مصر الجديدة بالقاهرة، فوجدت طفلاً يقف على محطة المترو ويحمل بعض البضاعة للبيع وهي حلوى شامية، فاقترب مني وحاولت أن أعطيه بعض النقود بثمن ما سيعطيه لي من دون أن آخذ منه شيئاً فإذا به يقول لي، "يا عمي إنني لست شحاذاً، إنني أبيع وأتقاضى ثمناً لما يحصل عليه المشتري، فلدينا كرامة في العروق"، وأيقنت وقتها أن الشعوب الأصيلة تبقى أصيلة دائماً في الأوقات السعيدة والمحن الطارئة بالقدر نفسه وعلى المستوى ذاته.

ثالثاً، إن أخشى ما أخشاه أن تدخل سوريا العزيزة إلى مرحلة من الصراعات الدموية الداخلية والمؤامرات السياسية وتقع فريسة بين طهران وأنقرة، بينما يلتقط الغراب الإسرائيلي أرض الوطن ويلتهمها قطعة قطعة، إذ إن نتنياهو لم يضيع الفرصة بالفعل واحتل المنطقة العازلة للحدود بين سوريا وإسرائيل، معلناً أن مرتفعات الجولان ستظل تحت سيطرة إسرائيل إلى الأبد!. إن سوريا التي أحاطت بها المؤامرات عبر التاريخ وحملت على أرضها حضارات وثقافات وديانات لا يجب أن تظل مرة أخرى مرتعاً للمغامرين والعابثين والإرهابيين، لذلك فإن اليقظة التامة والتضامن العربي الكامل هما أمران مطلوبان بشدة في هذه المرحلة التي لا يخلو فيها شبر عربي من أطماع إسرائيل ومن يدعمونها عسكرياً وسياسياً وإعلامياً من قتلة الأطفال وهادمي البيوت الذين يسعون إلى تصفية القضية الفلسطينية، بل ابتلاع مناطق عربية أخرى، فأطماع إسرائيل ليست من النيل إلى الفرات فحسب، بل إنها تتمدد كالديدان السامة في كل جزء يخلو من ساحات الوطن العربي، ولندرك نحن العرب أنه لا الفرس ولا الترك سيكونون حريصين على وحدة الوطن السوري، فالشعارات كثيرة والعبارات ساخنة لكن الواقع شيء آخر.

وأكرر ما قلته دائماً، يجب ألا يظل العرب كالأيتام على مائدة اللئام، ولا يمكن أن يقرر مصير سوريا المثلث غير العربي سواء كان الإيراني أو التركي أو الإسرائيلي، فلا بد من تحالف عربي صلب يقف أمام المخططات المقبلة علينا والساعية إلى تقسيم مظاهر التضامن لدينا، فالعروبة ليست رداء نرتديه حين نريد ونخلعه متى نشاء، إنها قدر ومصير وحياة.

إنني لا أشكك في نوايا أحد ولا أعرف إذا كانت وقفة الثوار الجدد وقفة وطنية خالصة لوجه الله والوطن أو شعارات مرحلية لاقتناص دولة وسرقة وطن، ولا بد من أن تصدق النية ولا نتصور أن تاريخ البشر لو كان سيئاً يظل يلاحق أصحابه للأبد، فالله سبحانه يقبل التوبة، لذلك فإن الشعوب من جانبها تعرف الغفران والنسيان، دعونا نأمل للقطر السوري الشقيق الخروج من محنته الطويلة الصعبة والاتجاه نحو غد مشرق ترتفع فيه رايات الحرية وأعلام الديمقراطية وتختفي منه إلى الأبد جميع أنواع القتل والتعذيب والاختفاء القسري، وليس لدي شك في أن ما جرى في سوريا هو صدى لمأساة غزة وأزمة لبنان، ولن تستقيم الأمور أبداً إلا بدولة عصرية حديثة تخرج من عباءة الماضي وتلفظ الطائفية والعنصرية وتشجب التعصب وتؤمن بأنه لا توجد فوارق بين أتباع الديانات، فالكل في هذه المنطقة من العالم يعبد الله الواحد الأحد ولا يجب أبداً أن نستغرق في التقسيمات والتفريعات، فتضيع الحقوق وتختفي الثوابت في عالم مضطرب، فلدينا القضية الفلسطينية بأبعادها المأسوية ولدينا ظروف محيطة عدة تنذر بالكوارث في أي وقت، ولا بد من أن نعي جميعاً أن من حقنا أن نتطلع إلى الغد بأمل حتى لو كنا نجلس وسط الدماء والأشلاء والأحقاد الخبيثة والعداوات المتأصلة ضد شعوب المنطقة وحقوقها التاريخية الثابتة التي لن تضيع أبداً.

اقرأ المزيد

المزيد من آراء