بات نادراً مع مرور الزمن العثور على إحدى الجدات الجزائريات الحاملات لوشم من ذاكرة الأمازيغ. تختفي تلك الثقافة الفريدة تدريجاً برحيل النساء الكبيرات في السن ممَن حملن رسوماً غير عادية على وجوههن. قصص لا تنتهي عند حدود الجمال، وإنما تمتد إلى تاريخ طويل في علاقة الإنسان الأمازيغي بالأرض.
كُثُر هن الجدات الجزائريات ممَن لا يعلمن شيئاً عن تاريخ الوشم الذي يزين وجوههن، ثقافة توارثتها الأجيال لقرون طويلة قبل أن تبدأ بالاندثار تدريجاً منذ السبعينيات، متأثرةً بالتيارات الدينية، وارتفاع مستوى التعليم في البلاد بعد 10 سنوات من الاستقلال.
على وجه الجدة يمينة، المتحدرة من باتنة الشاوية الأمازيغية شرق الجزائر (منطقة الشاوية بالأوراس)، وشم نخلة باسقة على الجبهة، نجمتان مشرقتان على الخدّين، ورمز أمازيغي على الجبين. وتقول الجدة يمينة لـ"اندبندنت عربية" إنها سلّمت وجهها إلى الوشّامة (سيدة تختص بالوشم) وهي في عمر الـ19، "كنت أرى في ذلك رمزاً للجمال والبهاء، لكني اليوم نادمة جداً، ولو كنت أعلم ما أعلمه اليوم لما فعلت".
جمال وتنفير للاستعمار
اختلف التأريخ لقصص الوشم على وجوه النساء الأمازيغيات بين دواعي الجمال والأنوثة وقصص الزواج، وبين الرغبة في تنفير الجنود الفرنسيين الذين اعتادوا اختيار أجمل الفتيات في قرى الجزائر. وتروي الجدة يمينة أن "هذا صحيح، كان الوشم منفراً لبعض الجنود، حينما كنا نسمع بعملية اجتياح للجيش الفرنسي تلتقي النسوة في اسطبل الحيوانات، بسرعة كبيرة كنا نضع فضلات الأبقار على أجسادنا، بل نضع أي شيء متسخ على كل أجسادنا فتدفع الرائحة الكريهة كل جندي بعيداً عنا".
يذكر الصحافي الناشط في منطقة الشاوية مهدي بوبكة لـ"اندبندنت عربية" أن "روايات من الثورة الجزائرية تكشف تحولاً في مفهوم الوشم على وجوه النساء الشاويات الأمازيغيات، ففي فترة ما قبل الاستعمار كان رمزاً للجمال والأنوثة والخصوبة، لكنه خلال فترة الاستعمار الفرنسي، والثورة التحريرية ما بعد عام 1954 بات فعلاً إجبارياً على فتيات العائلات الجزائرية تفادياً للاغتصاب".
وأوضح بوبكة "يذكر مجاهدون ومجاهدات (ضد الاستعمار) أن الجنود الفرنسيين كانوا يرتابون من صاحبة الوشم، اعتقاداً منهم أنها رموز شعوذة وسحر قد تصيبهم بلعنة ما، لذلك تحول الوشم إلى فعل ثوري تدافع به المرأة الشاوية عن شرفها من إجرام جنود الاحتلال الفرنسي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الوشم ليس رسماً عادياً
يشترك الأمازيغ في الجزائر، وبعض البلدان المغاربية في ثقافة الوشم، لكن الرسوم على الوجوه وبعض أجزاء الجسم الأخرى تختلف بين الأمازيغ أنفسهم. في منطقة الشاوية، ومنطقة القبائل ترسم الجدات ما يرمز إلى الطبيعة، أما الأمازيغ الطوارق، فالأوشام لديهم تجسّد قصص الرجال الرحّالة في الصحراء وروايات الحروب والقتال، بل وتُعد لغة إثبات اتصالية تمتد جذورها إلى ما قبل اعتناق الأمازيغ للإسلام نظراً إلى الطابع القبلي لسكان الصحراء.
يذكر السعيد بلوشة عضو جمعية "الأوراسية" في منطقة عين فكرون بمحافظة أم البواقي الشاوية، أن "الوشم على وجوه النساء ثقافة بدأت بالاندثار منذ ثلاثة عقود تقريباً، لم تعد هذه الثقافة موجودة بالنسبة إلى نساء ما بعد الاستقلال، قبل ذلك كان الوشم تاريخاً وثقافة متفرّدة. في السابق كان يُنظر إلى المرأة الأكثر وشماً على أنها الأكثر جمالاً، لم يكن الأمر اختيارياً، وإنما فعلاً إجبارياً متوارثاً".
ويفيد بلوشة بأن "المؤرخين يعتقدون أن الوشم قد ظهر في منطقة شمال إفريقيا قبل ظهور الإسلام، وارتبط أحياناً كثيرة برموز الجمال، كما أنه نتاج اعتقاد بجلب الحظ، أو القدرة على الإنجاب. لقد تأثر قدماء الأمازيغ بالمعتقدات الفينيقية، والرومانية، وكثير منها مستنبط من الخرافة. لذلك ظل فك رموز كثير من الأوشام غامضاً". إلا أن امتداد التيارات الدينية، وزيادة مستوى التعليم في البلاد في فترة ما بعد الاستقلال "دفع بهذه العادات إلى التراجع والتواري ثم الاختفاء تماماً، فأغلب الجدات يعبرن عن ندمهن بسبب هذا الفعل المبني على الخرافة، البعض منهن دفع جزية للفقراء تكفيراً عن الذنب، فالوشم الأمازيغي غير قابل للنزع إذ اعتمدت النساء الوشّامات على الإبر، والكحل، والسُخام المحروق، والماء المُمّلح، وأعشاب خاصة تجعل من الوشم جزءاً من جلد الوجه".
تفريق الرجل عن المرأة
قصص الوشم على وجوه النساء، ودلالاته تفرقت وتشعبت بمرور الزمن في بلد تعايش مع ثقافات عدة على مر القرون، لذلك تختلف الرسوم من زمان لآخر، وأبرز الرموز الأمازيغية هي النخيل، والنجوم، والعقارب، وأغصان الزيتون، لذلك وبقدر الاختلاف في تقدير طبيعة الرسم، يتوافق الباحثون في التأريخ لمسار الإنسان الأمازيغي، إذ إن هذا الفعل ارتبط بالمكان والزمان والمحيط.
ويشرح أستاذ التاريخ المعاصر نصر الدين حمادي أن "باحثين جمعوا شهادات مختلفة من جدات في مناطق أمازيغية كثيرة. وجاءت تلك الشهادات متفرقة بين رموز الجمال والزينة، وبين تنفير المستعمر في فترة الثورة التحريرية"، لذلك يلاحظ حمادي أن "الجدات اللائي تزوجن قبل اندلاع الثورة التحريرية عام 1954 ذكرن أنهن خضعن للوشم قبل موعد الزفاف، كانت الوالدة تخبر العروس أن وضع الوشم يفرقها عن الرجل بجمالها، وأن عليها ألا تبدو في مظهر رجل. في تلك الفترة لم تعرف المرأة الجزائرية شيئاً عن مظاهر الزينة غير الكحل والوشم".
ويأسف حمادي لغياب "أي مجهود لحفظ، وتفسير هذه الثقافة على المستوى الأكاديمي. فمع انتشار مظاهر الوعي في فترة ما بعد الاستقلال تخلت المرأة الجزائرية عن هذا التقليد تدريجاً، في المقابل فإن كل الدراسات المنجزة حول الظاهرة، سطحية ومحدودة، وليست في مستوى هذا الإرث الأمازيغي".