تعيش الهويات جميعُها في حالة رحلة متواصلة، لا توجد هوية جامدة أو محنطة، كل هوية مخترقة من قبل هويات أخرى، وكل هوية تحاول ألا تفقد ذاكرتها الضاربة في الزمن متحدية بها الحروب والغزوات والانهزامات والاغتصابات. الهوية كالثمرة قد يتغير شكلها وطعمها، نظرا لعوامل خارجية كالشمس والريح والبرد، ونوع التربة التي تنبت فيها، وكمية الأمطار، وشكل ومضمون الرعاية، لكنها وفي جميع الحالات هذه تملك بداخلها نواة تظل هي نفسها، وهي التي تمنحها صفاتها، شكلها ولونها وطعمها. النواة هي الهوية والشجرة بثمارها هي مستقبل الهوية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والأمازيغ، سكان تامزغا أو شمال إفريقيا الأصليون، عرفوا عبر التاريخ الطويل محنا كثيرة، وحروبا، واستعمارات، وديانات سماوية وطبيعية وفدت عليهم في عقر دارهم، ولكنهم ظلوا هم أنفسهم. اختلطوا فتأثروا وأثروا، انتصروا وانهزموا، وفي كل مرة، وبعد عبور الزوبعة، كانوا يعودون إلى لغتهم وتقاليدهم وهويتهم، تارة باطمئنان وتارة بخوف، تارة بعزيمة وتارة بقلق.
وفي هذه العلاقة مع عواصف التاريخ بكل ما فيها من مرارة وشقاء وإصرار، كانت هناك عوامل أساسية هي التي لعبت دورا في الحفاظ على هذه الهوية من التبدد والاندثار.
إن الفلكلور الذي قد ينظر إليه البعض على أنه "فرجة متحفية"، يُعدُّ في تاريخ الأمازيغ البربر متراسا حقيقيا ضد مختلف أشكال الغزو الذي تعرضت لها أرضهم وثقافتهم ولغتهم وهويتهم. فالجَرَّةُ من الفخار، التي كثيرا ما نشاهدها في صور نمطية محمولة على كتف امرأة جميلة بلباس محلي بألوان زاهية، وفوطة على الخصر، هي واحدة من أحجار الزاوية في الدفاع عن الهوية، وهذه الأوشام التي تصر المرأة الشاوية الأمازيغية أو الطارقية الأمازيغية على حفرها على جبهتها، وذقنها، وخدّيها، وخلف أذنيها، وعلى معصميها وعلى ظاهر كفيها، هي رموز محفورة على الجسد كرسالة لا تفنى إلا بفناء الجسد، هي أكبر وأطول عمرا من الكتب. وهذا التشكيل من الحلي التقليدية الفضية المصنوعة بيد مبدعة، هي مقاومة بالجمال ضد قبح الظلم والاستبداد الذي يهدد الأنا التي لا تريد سوى العيش بسلام وحرية. والزرابي بما تحتويه من رسومات مثيرة، هي في حقيقتها صحائف أكبر من المخطوطات وأطولها عمرا وتعميرا، لأنها تتجدد دون أن تتغير، فالمَنَاوِلُ التي عليها تنسج مثل هذه الزرابي، هي شكل من أشكال المطابع التي لا تتوقف عن بعث رسائل بـ"كودات" لحماية هوية مهمشة ومعرضة للانقراض، لكنها في حالة مقاومة ضد الفناء.
طويلا عمّر الشعر الأمازيغي كفنّ للقول الهوياتي بامتياز داخل الشكل الشفوي، بهذا المعنى فهو ينتمي إلى الثقافة الشفاهية غير العالمة كما يسميها الأنثربولوجيون، هذا الخطاب الرقيق هو الذي حفظ وحافظ على الهوية بقوته الناعمة الشرسة!! وقد توارث الأمازيغ جيلا بعد جيل حفظ أشعار شعرائهم كما يحفظ الكلام المقدس، فالشعر عندهم هو أقرب الفنون إلى النصوص الدينية، فأشعار "أمقران الشعراء" السي امحند أومحند (1840-1905)، أمير شعراء أمازيغ شمال إفريقيا بدون منازع، تُتَداول في جلسات "تاجماعت"، وما "تاجماعت" سوى مجلس الأعيان في القرية. كما تتداول أشعاره في الأعراس أيضا، وفي حلقات الشباب، في البلاد وفي المهاجر.
لا توجد أمة، في تصوري، أكثر ارتباطا بشعرائها مثلما هم عليه الأمازيغ، فالشاعر في عيونهم، حتى ولو كان "متحررا" من التقليدية "الدينية"، كما هي حال الشاعر السي امحند أومحند، إلا أن صورته في مخيالهم أقرب إلى صورة "الولي الصالح"، لا لشيء سوى لأن أشعاره عبارة عن صحائف للذاكرة الفردية والجماعية وسجل للهوية المهددة.
وخوفا على ضياع هذا الموروث الشعري الذي هو مثل الطاقة الحية في الدفاع عن الهوية وتحصينها، سارع كثير من الكتاب والباحثين والجامعيين منذ مطلع القرن الماضي، ولكن بشكل خاص بعد انفجار الأزمة البربرية ما بين 1949-1954 حول مكانة الأمازيغية في الحركة الوطنية الجزائرية، إلى جمع وتسجيل هذا التراث الشعري والحكائي وترجمته إلى الفرنسية، كي لا يضيع أو تجرفه سيول الثقافة الاستهلاكية وممحاة النظام السياسي، وهي إستراتيجية مُؤَسِّسَةٌ للمقاومة الثقافية الأمازيغية، التي بدأها الباحث اللساني والمؤرخ اعمر بوليفة (1863-1931)، الذي ألف كتاباً جوهرياً ضخماً وريادياً سماه "مختارات أشعار قبائلية" في 555 صفحة نشره عام 1904، وقد واصل هذا العمل التوثيقي المقاوِم، الكاتبُ والروائي مولود فرعون من خلال ترجمته "أشعار السي امحند" العام 1960، ولاحقا قام مولود معمري (1917-1989) الروائي واللساني والمناضل الثقافي بترجمة أخرى لأشعار السي أمحند أومحند، نشرها العام 1969 مع النصوص الأصلية باللغة الأمازيغية. ولقد كان الشعر هو السبب في اندلاع ما سمي بالربيع الأمازيغي في أبريل (نيسان) 1980، وذلك على إثر منع النظام السياسي، نظام الرئيس الشاذلي بن جديد آنذاك، لمحاضرة كان سيلقيها الكاتب مولود معمري بجامعة تيزي وزو حول الشعر الأمازيغي القديم.
فالشعر هو من حرك ثورة الهوية في الجزائر المستقلة، والشعر هو من أرّق أعداء وخصوم الهوية الأمازيغية في الجزائر.
وقد ارتبط الشعر بالغناء ارتباطا وثيقا وعضويا، فغالبية الشعراء الأمازيغ يمارسون الغناء، من أمثال سليمان عازم، والشيخ الحسناوي، وطاووس عمروش، والشريف خدام، وآيت منغلات، وإيدير، ومعطوب الوناس، وفرحات مهني، وحنيفة، وغيرهم، جميعهم كانوا شعراء يكتبون قصائد للغناء ولخارج الغناء، لهم ولغيرهم.
وتشكل الحكاية الشعبية رأسمالا ثقافيا مركزيا في الموروث الأمازيغي الشفوي، الذي أسهم في الحفاظ على الهوية الأمازيغية من الاندثار، ولقد استطاع كثير من الباحثين في الأنثروبولوجيا جمع متون هذه الحكايات وتصنيفها، ويظل ما قامت به الكاتبة طاووس عمروش (أم الكاتب جان الموهوب عمروش) وغيرها في هذا الباب، خزانة حقيقية للثقافة السردية الأمازيغية. تنزل هذه الحكايات من الأزمنة الغابرة عن طريق التداول الشفوي، تتناقلها الأجيال بلسان أمازيغي، وبسينوغرافيا اجتماعية أمازيغية محلية بسيطة، مرتبطة عادة بالحفلات الدينية والشعبية، ومواسم جني الغلال كالزيتون والتين. و إن المرأة، في غالب الأحيان، هي من يتولى تخزين وتدوير هذه الثروة الشعبية المقاوِمة للنسيان وللانحلال.
من رحم هذا الإرث الحكائي المتنوع والبسيط، ولد السرد الروائي الأمازيغي المعاصر، وقد تميز هذا السرد في بدايته بالحس الفلكلوري الساذج، لكن شيئا فشيئا بدأ يتحرر من سجن الرؤية الفلكلورية، ليغامر مع أفق الكتابة المدينية الحديثة، شكّل ذلك تراكما في النصوص السردية وتنوعا في التجارب الأدبية الفردية، وهو ما سرع بظهور الجيل الثالث من الكتابة الروائية بالأمازيغية. هذا الواقع الأدبي السردي الجديد، تشكل في ظل حضور قوي للمقاومة والتجنيد السياسي من أجل استرجاع الهوية الجريحة، فقمع النظام، والسجن الذي مارسه النظام السياسي منذ الاستقلال، زاد من إصرار الأمازيغ على مطالبهم الهوياتية وعلى رأسها مطالبتهم باعتبار اللغة الأمازيغية لغة وطنية ودستورية إلى جانب اللغة العربية، وهو ما كان يرفضه النظام وأحزاب النظام، من جبهة التحرير الوطني وحزب التجمع الديمقراطي والأحزاب الإسلامية جميعها دون استثناء، هذه الأخيرة التي كانت تعتبر مطلب ترسيم اللغة الأمازيغية موقفاً معادياً للإسلام، وقد صرح الرئيس الجزائري المخلوع عبد العزيز بوتفليقة في واحدة من خطبه في 1999، وفي تناغم مع التيار الإسلامي المحافظ، بأنه لن يسمح مطلقا بأن تصبح اللغة الأمازيغية لغة وطنية في عهده، ومع ذلك تراجع واستجاب ليس طواعية ولا حبا في الأمازيغية، بل بفضل نضالات القوى السياسية والثقافية، التي تبنت القضية الأمازيغية كمسألة وطنية، لا يمكن التراجع عنها.
شكّل الخطاب السردي المؤسس على الحس الجمالي الفلكلوري، في بدايته، مقاومة عنيدة مستثمرا في "الأسلوب الأدبي التقليدي" و"المحافظ". قد تبدو هذه المقاومة غير ذات فاعلية، لكن الواقع التاريخي يكذب ذلك، فهذه النصوص السردية الروائية الأولى، كانت بالفعل مانعا ضد اغتصاب المخيال الأمازيغي، وضد محاولة كسر جدار المناعة الهوياتية. يمكن ذكر تجربة رائد الرواية الأمازيغية بلعيد آيث أعلي (1909-1950) خاصة في روايته "ولي الجبل"، إنها نصوص، أو بعضها على الأقل، قد تبدو لنا على المستوى الجمالي ساذجة، ولكنها على المستوى الفلسفي والسياسي، تعد حاجزا منيعا ضد تفكك الذات الفردية والجماعية، وضد محاولة تحللها في الآخر الذي هو إما العربي أو الفرنسي، لما يشكلانه من حضور مُهَدِّد للهوية الأمازيغية، حيث الأول يستعمل الإسلام بوصفه دينا وصل في عُدّة لغوية وتمكّن من المنطقة روحيا، والثاني أي الفرنسي الذي وصل باسم القوة ثم لاحقا باسم المعاصرة الغربية بكل ما تمتلكه من تأثير وغواية .
لقد دخلت اللغة الأمازيغية تجربة الكتابة السردية المعاصرة بموازاة مع حركة ترجمة أعمال روائية عالمية إلى هذه اللغة، وكأنما الترجمة هي عبارة عن تمارين رياضية أسلوبية لتمرين اللغة على التعامل مع نصوص سردية معقدة وفلسفية، كرواية "العجوز والبحر" لهمنغواي، أو رواية "الغريب" لألبير كامو، أو كتاب "النبي" لجبران خليل جبران، أو مسرحية "روميو وجولييت"، لشكسبير وغيرها من النصوص العالمية التي ترجمت إلى الأمازيغية. وهو ما جعل الخطاب السردي الروائي يتخلص من فلك الفلكلورية والاحتجاجية الأيديولوجية العارية، إلى دائرة الكتابة الفلسفية والاجتماعية، كما هو الحال مع تجارب كل من الروائيين إبراهيم تازغارت، وسالم زانيا، وليندا كوداش، وديهية لويز، وغيرهم. فبهذه الأسماء وغيرها، دخلت مغامرة الكتابة الشعرية والروائية باللغة الأمازيغية مرحلة جديدة، ودخل خطاب المطالبة باسترجاع الهوية الأمازيغية مرحلة تاريخية جديدة أيضا.