من الصين إلى الجزائر، بدأت رحلة "الشونڤاي". هو ليس اسم المدينة الشهيرة في بلاد التنين، لكنه لباس صيني ارتداه مناضلو الحزب الشيوعي، قبل أن يُؤممه "أولاد البحر" وأبناء الأحياء الشعبية في الجزائر كرمز للرجولة والأنفة.
رمز لِمَعانٍ كثيرة
"للشونڤاي مكانة خاصة لدى الجزائريين، فهو ليس مجرد قطعة قماش خفيفة ذات لون أزرق بهيّ، إنما يرمز إلى الرجولة والصداقة والتعايش والمحبة وإلى نسمات البحر الأبيض المتوسط ورحلات البحّارة مع الصيد"، يقول الفنان الجزائري المعروف صادق جمعاوي، وهو مُؤسس فرقة البحارّة التي كان لها رواج واسع في سبعينيات القرن الماضي قبل أن تتوقف.
ويضيف جمعاوي لـ"اندبندنت عربية"، "أجدادنا لبسوا هذا الزي منذ القدم وفضّلوه على ربطات العنق والبدلات الكلاسيكية، فهو أنيق وكان يميّزهم عن المستعمرين الفرنسيين إبان فترة الاحتلال (1830-1962). على الرغم من بساطته، ظلّ محل اعتزاز وفخر لهم، حتى إنّ موضته طالت الأثرياء، فهناك أنواع مُوجّهة إلى الطبقة البرجوازية تُستورد من الخارج".
روح جزائرية
في السياق ذاته، يقول الإعلامي حسان مرابط المتابع للشأن الثقافي في البلاد إن "لباس ما يُعرف في المجتمع الجزائري بالشونڤاي هو نوع من الألبسة الصينية التي جاءت إلى البلاد بحكم التجارة والعلاقات التاريخية مع الصين منذ الثورة عام 1954، بل قبلها، حين كانت الجزائر تتبع النظام الاشتراكي الذي انتهجته جمهورية الصين الشعبية".
وتذهب الروايات إلى أن تجاراً صينيين أحضروه إلى الجزائر عن طريق ميناء مدينة شانغهاي وكان يرتديه مناضلو الحزب الشيوعي الصيني، بينما تذهب روايات أخرى إلى أنه كان يدخل إلى البلاد عن طريق مدينة مرسيليا الفرنسية، لكن أصله يبقى صينيّاً.
يضيف مرابط "عموماً، اللباس باتت لديه روح جزائرية ويزاحم الملابس التقليدية الرجالية، يميل إليه الكهول كثيراً، خلافاً للشباب الذين تقلّ درجة اهتمامهم بهذا اللباس المنتشر بين البحّارة وصيادي الأسماك، وهو عبارة عن سروال وقميص، يرغب البعض في ارتدائه مع قبعة البحّارة، بحسب الأذواق".
ويُشير إلى أنّ "فناني الأغنية الشعبية يلبسونه كثيراً ونذكر منهم عبد المجيد مسكود والراحل الحاج محمد العنقى واعمر الزاهي وغيرهم. وللتنويه فقط يوجد من هذا اللباس المقلّد والأصلي، ويختلف سعره من محل إلى آخر وفقاً للجودة".
تقليد متوارث
من جهة ثانية، يقول المطرب الشعبي المعروف عبد المجيد مسكود، إن تعلّقه بالشونڤاي ورثه عن والده الراحل.
ويوضح "كان والدي يرتديه، فأصبح لباسنا المفضل أنا وإخوتي، وأبنائي يفعلون الأمر ذاته". ويعتبر مسكود أنه اشتهر به لأنه شخصية معروفة، لكن عدداً كبيراً من الجزائريين يرتدونه، لا سيما القاطنين في المناطق الساحلية. ومسكود من الفنانين الذين يحرصون على إحياء حفلاتهم وسهراتهم بهذا اللباس، مرفقاً بقميص وقبعة البحّارة.
في المقابل، يُقدم عمر قيوسي (78 سنة)، الذي التقيناه في حي باب الواد الشعبي بالعاصمة، نفسه من الأوفياء للشونڤاي "لا يمكنني استبداله بأي لباس آخر، فهو رفيقي في فصل الصيف والشتاء. هذه القطعة عزيزة على قلبي منذ كنتُ في الـ17 من عمري وحتى اليوم، إذ كانت تُعتبر بدلة فاخرة في زمن الفقر قبل أن تعرف رواجاً وتصبح موضة". يضيف بابتسامة عريضة ترسم محيّاه "أستمتع كثيراً وأنا أتجوّل بالشونڤاي الذي يمنحني شعوراً رائعاً ومريحاً".
ويشرح "هذه القطعة التي أرتديها اليوم جاءتني من إسبانيا عن طريق ابنتي التي تقطن هناك، فهي ترسل لي القطع من فترة إلى أخرى، لأنّ ما يُباع هنا بات مقلّداً وبعضه آتٍ من المغرب أو يُصنع محلياً وهو ليس بالجودة التي تعوّدت عليها".
ألوان وماركات
بمحاذاة قاعة السينما في حي باب الوادي الشعبي بالعاصمة الجزائر كان حامدي محي الدين يجلس برفقة صديقه حسين مصطفى، وهما في السبعينيات من عمرهما، يتبادلان أطراف الحديث حول مستجدات الوضع في البلاد وغيرها من القضايا، إلّا أنهما تحمّسا لأن الموضوع يتحدث عن قصة اللباس الذي يرتديانه.
يقول الحاج حامدي "تعالي معي إلى منزلي وسترين مدى تعلّقي بالشونڤاي، فالخزانة مليئة بكل الأنواع والألوان. نحن العاصميون (سكان العاصمة الجزائرية) لم نتخلَّ عنه وبقينا محافظين على عادات أجدادنا ولم نغتر بالماركات العالمية للملابس التي تُباع في الأسواق".
وبحسب المتحدث، فإن أصل اللباس الصيني، دخل إلى الجزائر عن طريق فرنسا، حيث كان التجار يجلبونه من هناك لتسويقه في المدن الساحلية بعدما لاحظوا درجة الإقبال عليه.
"تشليق البلا"
وإن كان هذا اللباس الصيني يرمز إلى الرجولة والأنفة عند من يرتدونه بفخر واعتزاز، فإنه يجد من ينتقده، إذ يصفه البعض باللهجة العامية بـ"تشليق البلا"، كما يقول حسين مصطفى، والمقصود بذلك أنه "لباس يجلب لصاحبه المشكلات، إذ يعتقد كثيرون أن مَن يرتدونه يبحثون عن الخصومة ويرون أنفسهم أفضل من الآخرين".
ويوضح الحاج رزقي عيسى، عاشق آخر لهذه البدلة التي يُرفقها بطربوش أحمر يغطّي رأسه "هذا الزي هو لباس المعركة وليس مجرد قماش أزرق اللون نخرج به إلى الشارع. يتطلّب لبسه التحلّي بعقلية رجولية تحترم نفسها قبل غيرها وهذا ما لا يعرفه أبناء الجيل الحالي مَمَّن أغرتهم الألبسة الغربية التي تتنافى وعاداتنا وتقاليدنا، ولهذا نجد الكهول مَن يرتدونه ويحافظون على بقائه".