من المتعارف عليه أن للصحافة السودانية تاريخاً عريقاً وطويلاً، منذ الحكم التركي المصري في السودان في القرن الـ19 بدأت الصحافة الورقية، ومن ثم وُلدت صحافة حديثة في السودان عام 1903، حتى يومنا هذا، على الرغم من العقبات التي يواجهها الناشرون ورؤساء التحرير، بسبب الوضع الاقتصادي المتدهور، وعدم استقرار سعر صرف الجنيه السوداني مُقابل الدولار، خصوصاً في الأعوام العشرة الأخيرة. صُحف صمدت وصُحف أخرى جرى بيعها وإغلاقها وتقليص عدد العاملين فيها، حتى وصل الأمر بتصنيف الصحافيين على أنهم من أصاحب الأجور المنخفضة جداً، مقارنة ببقية الوظائف والبلدان، ما أدى إلى تدهور الصحافة السودانية. كل تلك المشكلات والعثرات كان يسيطر عليها أصحاب الصُحُف، حتى جاءت كورونا وحكمت على ما تبقى منها بالإغلاق الكامل.
تدهور اقتصادي
ومع تدهور الجنيه السوداني، كان هناك ارتفاع كبير في أسعار الصحف عاماً بعد عام، ما أجبر بعض المواطنين على الاستغناء عنها نهائياً، في بلد قيل إن شعبه شعب قارئ من الدرجة الأولى، "القاهرة تكتب وبيروت تطبع والخرطوم تقرأ"، إذ هناك اهتمام كبير بقراءة الصحف، ونسب التوزيع ضخمة، حتى أن أغلب الصحف تعتمد على عائد التوزيع.
الخبر الصادم أن ناشري الصحف قرروا رفع سعر نسخة الصحيفة إلى 45 جنيهاً (أكثر من ربع دولار). هذا السعر في بلد يعاني من تدهور اقتصادي وشح في الخبز والوقود، دفع صحفاً سودانية للتوقف عن الصدور خلال السنوات الماضية، والآن أكثر من 70 في المئة منها مهدد بالاغلاق.
عادل كلر صحافي مُستقل تحدث لـ"اندبندنت عربية" قائلاً، إن "رفع سعر الصُحف في الفترة الأخيرة هو نتاج مباشر للسياسة الاقتصادية التي أقرتها الحكومة الانتقالية، وتنعكس آثارها بصورة مباشرة على المؤسسات الصحافية التي سيكون الإصدار الورقي بالنسبة لها، بالغ الكلفة من حيث الارتفاع الكبير في تكلفة عملية الطباعة وندرة الورق، وفقاً لسعر صرف العملة مقابل دولار الاستيراد، وهو ما يعني عملياً نعي الصحافة الورقية في السودان، وخروجها مرة وللأبد من السوق مقابل الصحافة الإلكترونية، إلى جانب صعوبة إيفاء الناشرين بالمستلزمات والعتاد التقني والفني، لإدارة مؤسسة نشر إلكتروني حديثة تُراعي المتطلبات المهنية على نحو أكثر احترافية".
إنكار
وتتلقى الصحف تهديدات اقتصادية بالتوقف عن الصدور، ولكن على الرغم من ذلك لا يزال بعضها يكابر ويصرح بأنه لن يتوقف وسيواصل العمل. مؤشرات كبيرة تدل على اقتراب نهاية الصحف الورقية في السودان ما لم تقوم الحكومة بمعالجات اقتصادية لإنقاذها، علماً أن تكلفة الورق للجريدة الواحدة 25 جنيهاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مصطفى أبو العزائم رئيس تحرير صحيفة "الأخبار"، والتي ستغلق أبوابها بسبب أزمة كورونا والأزمة الاقتصادية يقول لـ"اندبندنت عربية"، إن "هناك ضعفاً في الاقتصاد، ما أدى إلى تقليل الإعلانات في الصُحف، فقط الجهات الكبرى تستطيع الإعلان بمبالغ كبيرة تُغطي تكاليف الطباعة ورواتب الصحافيين. وبالتأكيد لن نستطيع الاعتماد على التوزيع، لأن غلاء المعيشة جعل المواطنين يستغنون عنها. نحن نقوم باستيراد ورق الطباعة بتكلفة عالية جداً وهذا الأمر يرغمنا على زيادة سعر الصحيفة، التي من المتوقع وصول سعر النسخة الواحدة إلى 45 جنيهاً، ما سيجعل المواطن يتوقف عن شرائها طالما هناك وسائل أخرى مجانية مثل "الواتساب" والمواقع الإخبارية على الإنترنت، الصحف الورقية مهددة تهديد كبير بالتوقف، ومن يقول غير ذلك فكلامه ليس منطقياً، ليست صحيفة "الأخبار" فقط، بل أغلب الصحف".
شد وجذب بين الصحافة الورقية والإلكترونية
ويتابع أبو العزائم، "الصحافيون توجهوا للعمل في الصحف الإلكترونية والمواقع الإخبارية بسبب تدني الأجور في الصحف الورقية، وهذا الأمر أفقد الأخيرة عدداً كبيراً من الصحافيين".
في حين يرى كلر أن "القوانين التي تقنن حقوق الصحافيين في الصحافة الإلكترونية ضعيفة، من حيث التأمين الاجتماعي وفوائد ما بعد الخدمة وضمانات كفالة الحقوق، فضلاً عن وجود حاجة ماسة وفق استقراء الواقع الحالي، لمدونات سلوك الصحافي تحكم أخلاقيات الممارسة الصحافية الإلكترونية وآليات ضبط حقوقية، من قبيل خطاب الكراهية والعنف والتمييز والأخبار المضللة وتوفير التدريب والتأهيل اللازم لها".
وبحسب استطلاع رأي في الوسط الصحافي، أجمعت الغالبية أن العائد المادي الذي توفره المواقع الإلكترونية أفضل، ولكن ليست هناك ضمانات أو استمرارية، باعتبار أن هناك عدداً كبيراً من الصحف والمواقع الإلكترونية تُغلق لاعتبارات كثيرة، ويتم الاستغناء عن الصحافيين من دون حتى إخطارهم. ويرى البعض أن العمل في الصحافة الورقية أضمن على الرغم من شح العائد المادي، ما جعل عدداً كبيراً من الصحافيين يعملون أعمالاً إضافية لزيادة دخلهم المادي.
زيادة غير منطقية
وفي هذا الشأن، يقول أحد الصحافيين إن راتبه المادي يُصرف على المواصلات ووجبة الإفطار.
محمد الماحي من صحيفة "الأهرام اليوم" يقول لـ"اندبندنت عربية"، إن "زيادة الأسعار غير منطقية، إذ يجب أن تتم زيادة الإعلان بنسبة 100 في المئة، وهذا أمر منصف، لأن أسعار الورق ومدخلات الطباعة مع سعر الصرف أصبحت خيالية، وهناك صحف في الأصل متعثرة، ومعروف عالمياً أن سعر الصحيفة يساوي رغيفين، وهذا عُرف وليس قانوناً، مع زيادة الإعلان يمكن تخفيف سعر الصحيفة".
إذاً، لا تزال الصحافة الورقية في السودان تواجه خطر الاندثار جراء موجة الانهيار الاقتصادي. صحف صمدت لسنوات وقررت الاستسلام، والمواطن سيختار شراء الخبز لإطعام أطفاله بدلاً من الصحيفة التي يضاهي سعرها ثمن كيس من الخُبز.