ظلت قضايا التحرش الجنسي أحد الملفات المسكوت عنها في الإعلام على مستوى العالم لفترة طويلة، إذ ظلت أحد أكثر القضايا المثيرة للحرج سواءً في ما يتعلق بالضحية أو حتى جرأة تناولها من قبل المنصات الإعلامية، الأمر الذي تسبب في إبقاء ضحاياها في الظل حتى أكتوبر (تشرين الأول) 2017.
إذ فجرت الفضيحة الجنسية للمنتج الهوليوودي الشهير هارفي واينستين، ملف الاعتداء الجنسي بشكل علني ونقلته إلى السطح، بعد أن اتهمت عدد من النساء في الولايات المتحدة منتج هوليوود الشهير بالتحرش الجنسي، لتقود بعدها "الحركة النسوية" في أميركا حراكاً عالمياً لدفع النساء للتحدث عن قضاياهن بشكل علني والتوقف عن حماية المعتدين بالسكوت عنهم، لتبدأ بعدها سنوات سادت فيها الحركة على بقية الحركات والتنظيمات الاجتماعية، قادت فيها جهوداً أسقطت نخباً فنية وسياسية واجتماعية، وأيضاً إعلامية، بعد فتح ملفات اعتداءاتهم الجنسية في العلن.
إلا أن الأمر تغير ما إن حل العام الانتخابي في الولايات المتحدة، فما إن ألقت حمى السباق نحو البيت الأبيض برحالها على المشهد العام الأميركي، حتى بدأت الحسابات تتغير، إذ لم تعد الحركة قادرة على قيادة الحراك ضد أي متهم كما كان الأمر في السابق كما اتضح في حادثة اتهام جو بايدن التي نجح في التخلص منها، فمن كان القائد الفعلي لحركة "مي تو"؟
المعايير المزدوجة
بدأت القصة وانتهت عند وسائل الإعلام، التي قررت تبني اتهامات التحرش التي أطلقتها سيدات ضد واينستين، وطالبت تلك الوسائل السيدات بالتوقف عن السكوت والتحدث علناً في وسائل الإعلام، متعهدين بتصديقهن حتى لو لم يمتلكن إثباتاً على التهم التي يوجهنها، وهنا انفجرت الأحداث.
إلا أن تبني الإعلام الأميركي للقضية لم يخلُ من ضريبة، دفعتها الحركة النسوية وجماعة "مي تو" التي أظهرت ضعفها في تحمل قضاياها بمفردها، عندما قرر الإعلام الليبرالي الأميركي تجاهل بعض تهم التحرش لأسباب متعلقة بالانحيازات السياسية، كما يعلق إدموند غريب أستاذ العلاقات الدولية في جامعة جورج تاون "في بعض الحالات تم تسييس قضايا التحرش، بخاصة عندما تتعلق التهم بسياسيين، كما في حادثة القاضي بريت كافانو الذي نجح في الحصول على تصويت الكونغرس لمقعد المحكمة العليا على رغم التهم الأخلاقية التي وجهت له قبيل التصويت"، وهو ما يبرز ازدواجية التعاطي في قضايا التحرش، بحسب غريب.
ولم تكن الحالة الوحيدة التي قررت فيها النخبة الإعلامية الليبرالية قتل التهم بعدم التعاطي معها بجدية لعدم كفاية الأدلة كما في حالات أخرى لأسباب سياسية، إذ برزت قضايا لسياسيين ديموقراطيين كثر تم تبريرها بأنها ذات دوافع سياسية لا يجب أن تؤثر في حظوظه، كما حدث مع نائب حاكم ولاية فيرجينيا جاستين فيرفاكس الذي لم يبذل جهداً في نفي تهم تحرُّش بإحدى السيدات في مؤتمر الحزب الديمقراطي عام 2004، وتهمة مشابهة في مينيسوتا.
معركة ترمب فوق كل المعارك
تبرز معركة العام الانتخابي دائماً على كل القضايا بلا استثناء، كما تستغل كل القضايا عادة في صراع العام الانتخابي.
ففي حالة المرشح الديموقراطي للرئاسة الأميركية جو بايدن، وتهم التحرش التي وجهتها له تارا ريد، موظفة سابقة في مجلس الشيوخ، بعد أن نشر موقع "بيزنيس إنسايدر" شهادتين مسجلتين حول الاتهامات التي وجهتها ريد، والتي تزعم أن بايدن حاول الاعتداء عليها جنسياً في 1993.
وأضافت تارا "في أحدى مناسبات الكونغرس انفرد بي بايدن ووضع يده على رقبتي وكتفي بطرق تشعرني بعدم الارتياح فقاومته"، فلم تكن الأولى التي اتهمته بتعمد لمسها بطريقة غير مناسبة.
وقالت ريد إنها تعرضت لتعامل سيء بعد ذلك، إذ تعرضت لتخفيض مسؤولياتها في مكتبه بسبب رفضها تقديم المشروبات في إحدى المناسبات كما أمرت، لتضطر بعدها لترك العمل بعد شعورها بأن "موظفي بايدن كانوا يتقصدونها لحمايته والتستر على أفعاله".
ولم يبذل المرشح السبعيني جهداً كبيراً في نفي التهم، فقد نجح في تجاوزها بعد أن قررت النخبة السياسية الليبرالية واليسار الأميركي عدم السماح لهذه الحادثة بالتأثير في حظوظه الانتخابية أمام العدو المشترك دونالد ترمب. إذ يضيف غريب في ما يتعلق بهذه القضية "اللافت في حادثة بايدن هو أن شريحة كبيرة ممن كانت تدين التحرش في قضايا سابقة وتظهر التعاطف مع الضحايا، أبدت في حالة بايدن تقبلها للنفي الذي قدمه"، على رغم أنه لم يبذل جهداً كبيراً في ذلك.
وهو ما يبرز سطوة العام الانتخابي وقدرته على إعادة ترتيب الأولويات، بشكل لا يتوافق مع ما كانت تسير عليه الأمور قبل ذلك، وما ستسير عليه بعد الثلاثاء الكبير.
وزن الحركة النسوية
يُبرز اختبار العام الانتخابي وزن الحركات السياسية والاجتماعية في قدرتها على الاستفادة والتأثيرات في مجرياته، الأمر ذاته يحدث مع "الحركة النسوية" الأميركية التي تدخل هذا المعترك حاملة قضايا التحرش الجنسي التي نجحت في تدويلها خلال السنوات الماضية.
إلا أن فشلها في التأثيرات على الصعيد السياسي عندما يتعلق الأمر بمرشحين سياسيين، يطرح تساؤلاً حول الحجم الفعلي للحركة ومدى قوتها الحقيقية، ومدى قدرتها أيضاً على التأثير من دون دعم اليسار الغربي الذي صار شريكاً معها في قضاياها، إذ على ما يبدو وفق ما تسير عليه قضية بايدن أن من أبقى القضية حيةً طيلة السنوات الماضية هو الإعلام اليساري، وما لبثت التهم أن سقطت بعد أن قرر الإعلام ذاته الانسحاب من المعركة لدوافع سياسية.
ويشدد الدكتور أدموند غريب على أن هناك أموراً أخرى تؤثر في موازين القوى في أميركا، وهو ما يفسر تهميش القضية، إلا أن الحركة ذاتها وقعت في أخطاء نتج منها ما يحدث اليوم، "فهي لم تكن منظمة تنظيماً كافياً، ولم تكن لديها إدارة مالية جيدة على الرغم من أنها حصلت على بعض الدعم المالي"، وقال "أضف إلى ذلك أنها لا تملك قيادات دائمة، فهي برزت كحركة أكثر من كونها تنظيماً أو منظمة قادرة على الاستمرار، على رغم أنها تركت أثراً مهماً على الوعي العام في أميركا". لكن وعلى الرغم من هذا التأثير إلا أنه ظل محدوداً وفق ما يقوله غريب، "صحيح أنها انتجت اهتماماً أكبر بقضايا العنف الجنسي، وخلقت ارتياحاً لدى النساء لهذا التحرك، لكن أظهرت استطلاعات بأنهن لا يعتقدن بأن (مي تو) أثرت فيهم في أماكن عملهم بشكل إيجابي حتى نعتبر أنها غيرت بشكل جذري".
وهنا يبرز تساؤل مهم حول مدى منطقية التعامل مع الحركة النسوية في ظل هذه النتائج كحركة مستقلة، قائمة بذاتها، بعد أن ذابت وصارت قضاياها جزءاً من قضايا اليسار الغربي ككل ولم تعد قضية النساء وحدهن.