في خمسينيات القرن الماضي، ضجّت لندن وعواصم العالم بمسرحية "أنظر إلى الوراء في غضب". كانت المسرحية التي كتبها جون أوزبورن صرخة جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، تعبيراً عن تمرّده وكسره كثيراً من التقاليد، ونوعاً من "محاكمة" الأبناء لآبائهم وماضيهم. عام 1966، أطلق الزعيم الصيني ماو تسي تونغ موجة لمحاكمة الحاضر، سُمّيت "الثورة الثقافية". كانت الفكرة المعلنة هي "تجديد الثورة" التي قادها بعد تأسيس الحزب الشيوعي عام 1921 عبر "المسيرة الكبرى" إلى الانتصار عام 1949 بحجّة أن ممارسة السلطة أضعفت الروح الثورية وقوّت إغراء البيروقراطية. لكنّ ما حدث فيها على أيدي الشبان الصغار المتشدّدين هو إخراج غير المرغوب فيهم من السلطة وإهانة كوادر الحزب وإرسالهم إلى الريف أو السجن للقيام بأشغال شاقة. وكان بين المبعدين والد الزعيم الحالي شي جينبنيغ والزعيم دينغ شياو بنغ. دينغ أُعيد إليه الاعتبار وحارب "عصابة الأربعة" بعد موت ماو، وقاد الصين نحو الانفتاح والنمو الاقتصادي والتخلّص من سلبيات "الثورة الثقافية" بالتركيز على مبدأ: "ليس المهم أن يكون الهر أبيض أو أسود، بل أن يصطاد الفئران".
اليوم، ترتفع في الولايات المتحدة وأوروبا وبقية العالم موجة أعلى وأوسع تحت عنوان: "حياة السود مهمة". وهي موجة سبقتها موجات، لكن اندفاعها كان أقوى بعد موت جورج فلويد الأسود تحت ركبة شرطي أبيض، لأنّ ظروف اندفاعها صارت ناضجة. فما يحدث هو نبش الماضي والثأر للعبيد من تجّارهم ومن الذين استخدموهم، وتسليط الضوء على المظالم المستمرة حتى اليوم: تكسير تماثيل الذين تاجروا بالعبيد وجنرالات الكونفيدرالية الذين قاتلوا للإبقاء على العبودية: تاجر العبيد إدوارد كولستون. في بريستول البريطانية. التجار في بوردو الفرنسية. جنرالات في مدن الجنوب الأميركي. بلجيكا سحبت تمثال الملك ليوبولد الثاني الذي احتلّ الكونغو. جامعة برنستون سحبت تمثال الرئيس وودرو ويلسون الذي كان رئيسها بسبب تاريخه مع الرقّ. واشنطن سحبت تمثال الرئيس أندرو جاكسون. أول أسود دخل السلك الدبلوماسي الأميركي عام 1925، والسود اليوم 7 في المئة فقط. ومنذ أسابيع والإعلام مملوء بالمقالات عن التمييز العنصري في السلطة والسينما والأدب، إذ لم تصل إلى القمة سوى الروائية توني موريسون. أما الشاعرة مايا أنجلو، فإنها أُعطيت فرصة لإلقاء قصيدة في حفل تنصيب الرئيس بيل كلينتون، وهي القائلة: "أنا أعرف لماذا تغني الطيور في الأقفاص".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن الموجة التي بدت نسخة سوداء من "الثورة الثقافية" سرعان ما قادت، بطبائع الأمور، إلى موجة مضادة. الرئيس إيمانويل ماكرون قال إن "فرنسا لن تُسقِط أي اسم من تاريخها، والجمهورية لن تُسقِط أي تمثال". وفي أميركا مَن سأل: هل ندمّر تمثال جيفرسون أحد الآباء المؤسسين وواضعي الدستور لأنه كان يملك عبيداً؟ وفي أميركا وأوروبا والعالم ارتفعت أسئلة مماثلة: هل نهدم الأهرام في مصر بحجّة أنها بُنيت على أكتاف العبيد؟ هل نهدم سور الصين العظيم، والكولوزيوم في روما والأكروبول في أثينا والقلعة في بعلبك؟
الواقع أن العبودية بدأت قبل تجارة العبيد الأفريقيين ونقلهم إلى العمل في أميركا. والتمييز ضدّ الأقلّيات، السوداء والبيضاء، لا يزال مستمراً في أوروبا مع أن فرنسا ألغت العبودية عام 1848، وأن ألمانيا لم تشهد سوى قليل من تجارب الرقيق. ولا أحد يجهل ما الذي فعلته الفتوحات وما أحدثته من مظالم على أيدي الإسكندر المقدوني والإمبراطورية الرومانية وجنكيز خان وتيمورلنك والسلطنة العثمانية والإمبرياليات الإسبانية والبرتغالية والفرنسية والبريطانية والقيصرية الروسية. لكن الغلو في محو كل شيء يقود إلى عالم بلا ماضٍ. فلا مجال لإلغاء التاريخ. ولا تزال تركيا ترفض الاعتراف بمجازر السلطنة العثمانية ضد الأرمن والسريان، وفرنسا ترفض الاعتذار لتونس والجزائر عَمّا فعله الاستعمار. وفي رأي كارولين راندال وليامز، فإنّ رافضي موجة الاعتراض على التماثيل لم يفهموا الفارق بين "إعادة كتابة" الماضي وبين "إعادة تشكيل" الماضي. فالمسألة "ليست رشّ التاريخ بالدهان بل إضافة منظور جديد إليه".
من أقوال الروائية السوداء الحائزة جائزة نوبل توني موريسون: "إنّ خطر فقدان إنسانيتنا يجب أن يُواجَه بمزيد من الإنسانية". والمشكلة أن مفهوم الإنسانية ليس واحداً حتى عند المفكرين.