عندما استعرض الصحافي الأميركي للمرة الأولى لوحة "بلا عنوان" للفنان مارك روتكو أوائل سنوات الخمسين، هزّ رأسه موافقاً وربما مهللّاً أيضاً ولسان حاله يقول: "أخيراً لوحة من هذا الفنان لها موضوع وربما فيها أشكال إنسانية ما...". من ناحية ظاهرية، كان الصحافي محقّاً في ملاحظته، لكنه في العمق كان متجنيّاً على روتكو وعلى الأقل في نظر العديد من النقاد الذين كانوا اعتادوا النظر إلى لوحات هذا الأخير من منظور يتوافق على أية حال مع منظور الفنان نفسه، هو الذي قال مرة وسط دهشة المُصغين إليه: "إنها لفكرة واسعة الانتشار بين الرسامين تلك التي تقول إن الموضوع لا تعود له في اللوحة إلا أهمية ضئيلة طالما أنه رُسم بشكل جيّد. وما هذا القول سوى خلاصة النزعة الأكاديمية. أما الحقيقة فهي أن ليس في الإمكان تحقيق لوحة جيّدة انطلاقاً من لا شيء". المدهش في هذا الكلام هو أن قائله هو الفنان الذي دائماً قيل عنه أن لوحاته شكلٌ من دون مضمون، ودلالةٌ بلا أيّ مدلول. وبحسب المرء أن يستعرض أكبرَ عددٍ ممكنٍ من لوحات روتكو ليصلَ، وظاهرياً هنا أيضاً، إلى حكم مشابهٍ و دهشةٍ مشابهةٍ للتي قد تنتاب المُصغي إلى كلامه.
شخوص عائمة في اللامكان
لكن أمام هذه اللوحة التي نقدّمها هنا والتي تعود إلى ما بين الأعوام 1946 – 1949 حين رسم روتكو سلسلة لوحات عنونها جميعاً "تعددية أشكال"، سيجد المرء نفسه مرغماً على التفرّس في اللوحة أكثر مما يفعل عادة أمام أية لوحة أخرى للرسام نفسه. فهنا عوضاً عن المسطّحات اللونية التي قد تحمل أحياناً لوناً واحداً وربما لونين، يجد المتفرّس نفسه أمام ألوان عديدة موزّعة في اللوحة البالغ ارتفاعها أكثر من 127 سم وعرضها أقل قليلاً من 110 سم. والتي تبدو في العلاقات بين الألوان والأشكال فيها وكأنها في اختلافها البيّن عن أعمال روتكو المعهودة، متاهة تخفي "موضوعاً" حقيقياً وربما أشكالاً بشرية متداخلة بين بعضها بعضاً بل ربما تتجاذب أطراف الحديث في ما بينها فيما تبدو وكأنها تطوف عائمة في مناخ غرائبي يسعى على الأقل لكي يكون "واقعياً". والحقيقة، إن أمعنا في لعبة تأويل ما هنا، قد نجد أنفسنا أمام لوحة يمثّل غموضها نوعاً من التعبير عمّا كان يُعرف به روتكو على أي حال بوصفه الفنان المعبّر أكثر من أي فنان آخر عن "الفاجعة الإنسانية"، وذلك حتى خارج إطار تلك "التجريديّات" التي ستجد من يعطيها طابعاً دينياً يوصل إلى قول غامض فحواه أن روتكو في تلك اللوحات قد يبدو أكثر ارتباطاً، في فنه، بالإيمان الديني ممّا كانت حال مواطنه الروسي الآخر مارك شاغال الذي اختار أن يكون فرنسياً وأن يعبّر عن أصوله الريفية اليهودية الروسية العتيقة، فيما اختار روتكو أن يعبّر عن إيمانه الخاص بتلك الطريقة التجريديّة التي نُعتت بالتصوّفية.
أين التراجيديا؟
ومع هذا، قد لا يكون من السهل على المتفرّج العادي أن يفهم، بشكل واضح، ما يقال عادة من أن الفن التشكيلي الذي مارسه روتكو بشكل عام، يعبّر حقا عن "التراجيديا التي يعيشها الكائن البشري في القرن العشرين". فالحال إن ما يشاهده هذا المتفرج في لوحات روتكو، التي تعرض حالياً بشكل متواصل، في غير مكان في العالم ويتدافع الكثيرون من الهواة لمشاهدتها، ليس أكثر من مستطيلات ومتوازيات لونية، بنّيةٍ على أسود، أو قرميديّة على أزرق. وفي لوحة من اللوحات قد يُشدَه المتفرج، من غير الضالعين، إذ لا يرى أمامه سوى مسطّح أزرق اللون، من دون فروقات، وتضاريس، وعلامات. هذه اللوحة كان روتكو قد أوصل فيها الاستفزاز إلى أعلى مراحله. والطريف أنه قال، حين طُرحت عليه تساؤلات بشأنها "أنا واثق من أن تقليدها أصعب من تقليد لوحة الموناليزا".
لوحات روتكو، إذن، وفي ظاهرها على الأقل، هي الأكثر استفزازاً و"خواء" من بين لوحات الفنانين التجريديّين الأميركيين كافة. إذ أمام أعمال دي كوننغ أو جاكسون بولوك (والإثنين معاصرين لروتكو وينتميان مثله إلى المدرسة التجريديّة التعبيريّة نفسها) قد يقنع المرء نفسه أن بإمكانه أن يطالع معاني ما، أو أحاسيس معيّنة، بين الخطوط المتشابكة، أو المساحات اللونية المتداخلة. أما أمام القسم الأعظم من لوحات روتكو فليس ثمة سـوى الفراغ. والحقيقة أن هذا - بالتحديد - ما كان يقصد إليه مارك روتكو: الفراغ. وهذا الفراغ البصري هو ما يدفع المؤرخين اليوم إلى الحديث عن علاقة فن مارك روتكو بـ"الفاجعة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فنون المقتَلَعين
طبعاً لا نتوقّف في هذه العجالة عند تحليلات مؤيدة لفن روتكو أو معادية له، لكننا نتوقّف عند حياة الفنان نفسه. مارك روتكو هو، مثل كبار الفنانين التشكيليّين في القرن العشرين، وُلد في غير المكان الذي عاش فيه وعرف فيه مجده الكبير. فهو، الذي يعتبر واحداً من أساطين فن التجريد الأميركي في القرن العشرين ولد العام 1903 في مدينة دفينسك الروسية. وكان في العاشرة من عمره حين هاجر مع أهله إلى الولايات المتحدة. في روسيا كان اسمه ماركوس روتكوفيتش. أما في بلاد العم سام فإنه، ما إن شبّ عن الطوق وصار فناناً، اختصر اسمه إلى مارك روتكو، وهو الاسم الذي عُرف به، وكان في غاية التألّق حين رحل صاحبه عن عالمنا عام 1970.
على الرغم من ولادته الروسية، عرف روتكو كيف يكون ويظلّ إلى النهاية أميركياً، على عكس مواطنه مارك شاغال الذي ظلّ روسياً ريفياً يهودياً حتى النخاع إلى آخر أيامه.
في الولايات المتحدة مارس الطفل ماركوس مهناً عدّة وتابع دروساً في فن التمثيل، حين بلغ العشرين من عمره فاستبدت به، فجأة، رغبة في أن يصبح رساماً باعتبار الرسم "شقيقاً للشعر الذي أولع به لكنه لم يفلح فيه". وعند نهاية سنوات الثلاثين كان صاحبنا قد أضحى رساماً حقيقياً يرسم مشاهد من حياة الشوارع ومن اختناق الناس وسط اكتظاظ المترو بهم، في مشاهد توحي بالوحشة والعزلة في مجتمع اليوم. وخلال الحرب العالمية الثانية أخذ السورياليون الفرنسيون وغير الفرنسيين يتدفّقون على الولايات المتحدة وراح روتكو يختلط بهم، في الوقت الذي أُولع فيه بالأساطير الإغريقية وراح يستلهم منها لوحات تسبر الوعي الباطني لكنها لم تنلْ أيّ حظ من النجاح أو القبول. ولقد قاده هذا الفشل إلى تحويل الوجوه والأشكال إلى مسطّحات لونية مشعّة اعتباراً من العام 1946. وهي المسطّحات نفسها التي اختصرها في مسطّحين أو ثلاثة منذ العام 1949، وصارت عبارة منهما يتلاقيان بشكل هلامي، ملوّنين بألوان دافئة تبدو كلٌ منها يكاد يثب على الآخر. والطريف أن روتكو كان يصر دائماً على أن تُعرض لوحاته بشكل يعرّضها لأعلى درجات الضوء وأن تعلّق قريبة جداً من أرض المعرض بحيث يشعر المتفرج عليها بأنها تحيط به من كل جانب وتحتضنه.
أمضى روتكو العقدين الأخيرين من حياته وهو يرسم ذلك النوع من اللوحات، ما أسبغ عليه شهرة عالمية صُنعت من إعجاب الكثيرين به، ومن شعور الآخرين بأن فنه يستفزّهم. أما هو ففي أواخر أيامه أخذ يشعر بأن نجاحه يزعجه خصوصاً أن كثيرين بدأوا يخلطون بين فنه وبين الفنون التزييتيّة، وهكذا راح يغمّق ألوانه، حتى صارت لوحات أعوامه الأخيرة مؤلّفة من ألوان تتراوح بين الأسود والرمادي. وبعد ذلك، كان لا بد للموت أن يجيئه ذات صباح مشرقٍ بشكل استثنائيّ، كما سيقول كاتبو سيرته.