يُعتبر إعلان الحكومة تقديم مساعدة مالية بـ1.57 مليار جنيه إسترليني للقطاع الثقافي، اعترافاً ولو متأخراً بعض الشيء، بأهمية الفنون في حياة أمّتنا. ووفق كلمات قوية لرئيس الوزراء، "إنّها القلب النابض للأمة". حتى لو لم تكن تلك الاستعارة دقيقة تماماً، لكن (بوريس) جونسون، لمرة واحدة، قال شيئاً صحيحاً من حيث المبدأ.
هناك ميل إلى الاعتقاد أنّ المسارح والمعارض الفنية وقاعات الحفلات الموسيقية تشكّل رفاهية اختيارية إذا نظرنا إليها ضمن النطاق الأوسع للمعاناة في الحياة. وتظهر كأنّها إضافات تافهة تستطيع المجتمعات تحمّل تكلفة الاستمتاع بها بعد الانتهاء من الإنفاق على الأشياء المهمة بالفعل كالصحة والتعليم والبنية التحتية والدفاع. لكن في حقيقة الأمر، فإنّ الفنون والثقافة، سمّوها ما شئتم، تؤدي وظيفة حيوية في مجتمعنا. وبرأيي، إنها بنفس أهمية ما يُطلق عليها وصف "الخدمات الأساسية"، التي بتنا نسمع عنها كثيراً.
حقيقةً، فيما جعلتنا الأشهر الأربعة الماضية نشعر بالامتنان العميق، وبطريقة صائبة تماماً، تجاه هيئة "الخدمات الصحية الوطنية" والعاملين المتفانين الذين وضعوا حياتهم في خطر، أو ضحّوا بها في بعض الأحيان، من أجل الحفاظ على استمرارية النظام العام، فإنّ تلك الفترة قد بيّنت بالطريقة ذاتها أن الفنون تتربّع بالمطلق في صميم الصحة الذهنية والبدنية للشعب.
وبينما كنّا نعيش إقامة جبرية في مساكننا، محرومين من التواصل الاجتماعي الذي يمنحنا شعوراً بالحياة، وسُرّح بعضنا من أعمالهم بشكل مؤقت، بينما خسر بعضنا الآخر وظائفهم وأحباءهم، ما الذي كنّا نفعله في الواقع؟ في حين كاد البعض أن يفقد صوابه في محاولة تعليم أبنائهم في المنزل، إضافةً إلى متابعة واجبات العمل المُتَطلِّبة باستخدام طاولة المطبخ بدلاً من المكتب، تمثّل الملجأ الوحيد بالنسبة إلى البعض في مواردهم العاطفية الخاصة. عندما ستُجرى تقييمات نهائية، سيتبيّن أن الكارثة التي خلّفها وباء فيروس "كوفيد-19" والإغلاق العام الذي رافقه على الصحة العقلية، لا تقلّ أبداً عَمّا حصل بالنسبة إلى الصحة الجسدية. في المقابل، إنّ تلك الأشياء التي لجأنا إليها لملء ذلك الفراغ الروحي والعاطفي المرعب، ذلك الإحساس بأننا نقف على أرضية متداعية، كانت إلى حدّ كبير ثقافية بالمعنى الشامل للكلمة.
استطراداً، قد لا تكون مشاهدة التلفزيون، أو تأمّل صور العطلات التي قضيناها قبل سنين أو الاستماع إلى الألبومات الموسيقية المفضّلة لدينا عبر "فيسبوك"، أرفع أنواع الأنشطة الثقافية، لكنها تلبّي بطرق عدّة ذلك الاندفاع الخيالي والتعبيري الذي يُعتبر أصل أشكال الفنون جميعاً. وكذلك يمكن أن يبرز [ذلك الاندفاع] ذاته بطُرُق شديدة التدمير، أو إيجابية جداً أيضاً، إذا لم يُعتنَ بها بالطريقة المناسبة. ويمتدّ ذلك من الهذيان، إلى القتل والانتحار، وصولاً إلى الإساءة الجنسية والإدمان على المخدرات والكحول.
وإضافةً إلى ذلك، قدّم أفراد الجمهور حفلات عبر تطبيق "زووم" جاءت في أحيان كثيرة بمستوى نموذجي. وكذلك عمدوا إلى كتابة الشعر (على مستوى أقلّ مثالية بكثير، إذا كانت خبرتي يُعتَدُّ بها في ذلك الشأن)، ونهضوا أيضاً بأعمال البستنة وإعادة تنظيم أرشيف صورهم وإنهاء روايات بدأوها سابقاً، إضافةً إلى انخراطهم من طاولات منازلهم في ممارسات فنية صاغها فنانون شهيرون. بدا عددٌ كبيرٌ من هذه الأنشطة الأخيرة مبتذلاً. ومثلاً، لم أكن قادراً على تحمّل "نادي غريسون بيري الفني" Grayson Perry’s Art Club حتى النهاية، لكنه برهان على أننا بحاجة إلى فعل هذه الأشياء. لقد ذهبنا في جولات افتراضية في المعارض، ورأينا تحفاً فنية رائعة محفوظة بعيداً من أنظار الجمهور، مع شعورنا بأنها تمثّل الصيغة الأقرب لزيارة المعارض إذا تمكنّا الحصول عليها مجدداً، وقد تأكد هذا الشعور عندما بلغ الإغلاق ذروته وكنّا نسمع إلى ما لا نهاية عبارة "الأمور لن تعود إلى سابق عهدها أبداً".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وحاضراً، مع رفع حالة الإغلاق العام بشكل تدريجي، ستكون المتاحف والمعارض الفنية من بين أولى المرافق الثقافية التي ستعيد فتح أبوابها. وقد رحّب "المعرض الوطني" بأوائل زوّاره يوم السبت الماضي. وسيكون العالم الذي يشهد إعادة فتح المرافق الثقافية مختلفاً تماماً عن العالم الذي شهد إيصادها في شهر مارس (آذار). وسيكون هناك شحّ في المعارض الضخمة، تلك التي تتطلّب موراد جمّة وتُعتبر دعامات أساسية للصالات الكبيرة، في المشهد الثقافي القاسي والحرج ما بعد كورونا. وبينما ينتاب الشكّ في جدوى المؤسّسات الثقافية في المستقبل، 50 في المئة من مدراء المتاحف والمعارض الذين شملهم استطلاع أجرته جمعية "صندوق الفن" Art Fund الخيرية. ويمتد ذلك من إعادة اجتذاب الزوار إلى الحفاظ على المقتنيات الثمينة.
تُعدُّ هذه أسئلة مصيرية. فقد كبرنا ونحن معتادون على وفرة الثقافة المتاحة بحرّية مثل الماء أو الغاز، وبكلفة أقلّ بكثير فعلياً بالنسبة إلى المستهلك. أورثنا أجدادنا من العصر الفيكتوري متاحفنا الوطنية والمحلية الكبيرة، التي ما زال دخولها مجانياً حتى الآن. لقد منحتنا فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، مجلس الفنون وجميع الأعمال فيه. وكذلك وهبتنا فترة التسعينيات من القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة مجموعة كاملة من المعارض المحلية الجديدة بالكامل التي تتمتّع بتركيبة عمرانية رائعة كـ"تيت سانت إيفيس" Tate St Ives و"هيبورث ويكفيلد" Hepworth Wakefield و"معرض مارغريت تيرنر للفن المعاصر" Margate’s Turner Contemporary التي أضافت قيمة لا يمكن قياسها سواء بالنسبة إلى جاذبية بلداتنا ومدننا، أو الحيوية الإبداعية والثقافية والاجتماعية وحتى الاقتصادية لبلدنا.
لا يمكن بأي شكل من الأشكال ضمان مستقبل هذه الموارد الوطنية العظيمة. ومن المرعب التفكير في أن تضحي المتاحف والمعارض مجرد ممتلكات عقارية فائضة عن الحاجة، على غرار مصير الحانات والمصارف ومحطات الوقود.
وللتذكير، شهد النسيج المتداعي لمتاحفنا ومعارضنا الوطنية دعماً مالياً حكومياً بـ100 مليون جنيه الخريف الماضي. وقد اعتُبِرَتْ تلك الخطوة على الرغم من الترحيب الشديد بها، كمسكّن للألم وليس علاجاً للجرح بشكل نهائي. ومن المنطلق ذاته، فإن خطة الإنقاذ الحالية بـ1.57 مليار جنيه التي ستغطّي القطاع الثقافي برمّته، مع ملاحظة عدم الإعلان عن طريقة توزيع ذلك المال حتى الآن، تبدو مثل تقديم إسعافات أوّلية بسيطة بدل إعطاء علاج منقذ للحياة.
ما زالت هناك أوقات عصيبة تنتظر القطاع الثقافي. لكنني شخصياً متفائل في الأحوال كلها بالنسبة إلى ما يتعلّق بمسألة إعادة اجتذاب الجماهير. فبعد أربعة أشهر من التجارب الثقافية تحت الإقامة الجبرية في المنازل، التي بدت كأنها استمرّت عمراً بأكمله، سيتوق الناس إلى العودة للمرافق الثقافية الفعلية التي تحتوي أعمالاً فنية مادية وحقيقية. وكذلك سيشعرون بالترف الرائع لعبارة "رجاءً، لا تلمسوا المعروضات". نحن بحاجة إلى دعم متاحفنا ومعارضنا، ليس بمجرد تقديم التبرعات وصرف الأموال في المقاهي ومتاجر الهدايا التذكارية الموجودة فيها، بل عبر استخدام تلك الأماكن وجعلها ملكاً لنا، وفق ما انتوى الأشخاص الذين أسّسوها. واستطراداً، لا تستطيع إدراك قيمة تلك التجارب وقدرتها على تحسين الحياة وضرورتها الاجتماعية أيضاً، إلّا عندما تُحرم من عيش تجربة التجوّل في معرض أو متحف برفقة أشخاص آخرين حتى لو لم تكن على معرفة بهم.
© The Independent