ظلت قضية ترسيم الحدود بين السودان وإثيوبيا تراوح مكانها، منذ عام 1902، أي قبل ما يزيد على قرن كامل من الزمان، من دون أن يتم الترسيم فعلاً.
فيما يستمر التعدي والتوسع الإثيوبي داخل الأراضي السودانية من قبل ما يسمى عصابات "الشفتة" المسلحة، وبعلم الحكومة الإثيوبية.
فهل فعلاً تسعى إثيوبيا إلى الحفاظ على الوضع الراهن، بينما يستمر التغلغل والتمدد داخل الأرض السودانية، عبر الاعتداءات المتكررة التي لا تتوقف، ما أدى إلى اشتباكات متجددة، وتصاعد مضطرد في درجة التوتر الحدودي بين البلدين، على الرغم من وجود اتفاقيات واضحة، بتوصيف حدود البلدين منذ اتفاقيتَي 1902، و1972، وصولاً الى عامي 2013 و 2016، بشأن ترسيم الحدود.
وتساءل مراقبون، أكاديميون ودبلوماسيون تحدثوا إلى "اندبندنت عربية"، عن سبب تلكؤ وعدم حماسة أديس أبابا، طوال تلك السنوات، لحل الأزمة، بترسيم حدود البلدين، وما إذا كانت هناك رغبة إثيوبية مستترة ومبطنة للإبقاء على الواقع الراهن، والحفاظ على الوضع المكتسب على ما هو عليه.
انتهاكات متكررة
وفي السياق ذاته، وصف السفير عثمان نافع حمد، الذي شغل منصب سفير السودان لدى إثيوبيا لأكثر من مرة، الانتهاكات التي ترتكبها ميليشيات أو ما يسمى عصابات "الشفته" واعتداءها على أراضي السودان الزراعية في الفشقة والقلابات الشرقية وباسندة والقريشة، بأنها تتم بدعم ومباركة من حكومة إقليم الأمهرا المجاور لولاية القضارف، بينما تغض الحكومة الإثيوبية المركزية في أديس أبابا الطرف عن تلك الانتهاكلت
وقال حمد في حديث إلى "اندبندنت عربية" إن السودان من أجل الحفاظ على حسن الجوار ظل يطلب باستمرار الشروع في ترسيم الحدود وفقاً للاتفاقيات، لدرجة إعلانه التكفل بكامل تكلفة الترسيم، من دون أدنى استجابة من الجانب الإثيوبي.
لكن على العكس، بقي التمدد يتزايد، وبقوة السلاح المسنودة من حكومة إقليم الأمهرا المجاور لولاية القضارف، وتتسع كل يوم المساحات التي يستزرعها المزارعون الإثيوبيون داخل أرض السودان، لتصل إلى درجة الاحتلال الكامل للمنطقة الزراعية شرق نهر عطبرة.
وكشف السفير السابق، أن رئيس الوزراء الإثيوبي ديسالين هيلامريام، أعلن في عام 2016 خلال لقاء له مع نائب رئيس الجمهورية آنذاك، حسبو محمد عبد الرحمن، عن استعداد بلاده وموافقتها على الترسيم، وفق ترتيبات يتفق عليها، إلا أن إعلانه لم يرَ النور، نتيجة الحملة السياسية المناوئة الشرسة بقيادة قومية الأمهرا، التي تفجّرت ضده بسبب ذلك الإعلان.
كما أن الجانب الإثيوبي، بحسب حمد، وبعد عام واحد من توقيع اتفاقية 1902، اعترف بتوصيف الحدود، لكنه رفض الترسيم الذي تم بواسطة المهندس البريطاني ميجور كوين بتكليف من السلطات الإنجليزية، بحجة عدم المشاركة، غير أن الطرفين عادا في اتفاقية 1972، وأتفقا على الترسيم مستعينين بفني فنلندي دولي للترسيم، مع إيجاد معالجات لآثار الترسيم في المزراعين من الطرفين، وفقاً لقوانين كل دولة.
تفريط حكومي سوداني
يشير عثمان نافع حمد، إلى ما سماه تفريط الحكومات السودانية المتعاقبة، نتيجة عدم انتهاجها سياسات من شأنها الحفاظ على الأراضي السودانية، كتعزيز الوجود السكاني والأمني وتنمية مناطق الشريط الحدودي، ومعالجة الوجود الكثيف للعمالة الإثيوبية، والسماح للمزارعين السودانيين بتأجير أراضيهم لهم، ما خلق نوعاً من الفراغ شجع الطرف الآخر على التمدد المستمر.
ودعا حمد، إلى ضرورة إعداد خطة لمعالجة قضايا حدود السودان مع دول الجوار كافة، وإثيوبيا بصفة خاصة، واتخاذ الإجراءات اللازمة لوقف التمدّد والتوسّع الإثيوبيّين المستمرين داخل الأراضي السودانية، وتثبيت السيادة الوطنية عليها، حتى لا يُفتح الباب أمام ذرائع الحقوق التاريخية أو المكتسبة والتقادم، بالعمل من خلال الأطر الإقليمية والدولية، لحسم ملف الحدود مع إثيوبيا، سيما أن طبيعة مشاكل الحدود يمكن أن تتطور لتصبح مهددة للأمن والسلم الإقليميين والعالميين.
ويستطرد السفير السابق "استناداً إلى سابقة سد النهضة، ينبغي أن يعمل السودان على اللجوء إلى الاتحاد الأفريقي، وطرح قضية الحدود من أجل استقرار المنطقة، حيث أن هذه القضية قد طال أمدها، ولم تحلّ على المستوى الثنائي، بسبب التلكؤ الإثيوبي، طيلة فترة طويلة جداً، امتدت إلى حوالي أكثر من قرن.
ورجَّح السفير حمد أن تظل أزمة الحدود حجر عثرة، أمام علاقات البلدين، تضعهما في حالة مستمرة من التأرجح والشد والجذب، على الرغم من التنسيق المشترك في كثير من الملفات الإقليمية المشتركة ما ساهم في تقريب وجهات النظر بينهما في الآونة الأخيرة.
وحول الحلول الممكنة لهذه القضية يقول "لا ينبغي أن يظل هذا الملف مسكوتاً عنه لأكثر من ذلك، ولا أرى حلاً إلا في إتمام عملية ترسيم الحدود وفق اتفاقية 1972، لأنه ومن دون ذلك ستستمر التعديات والتوسع.
أطماع خفية
على صعيد متصل، يوضح أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة السودانية، المتخصّص بالعلاقات السودانية الإثيوبية، البروفسور عصمت محمد حسين "على الرغم من أن اتفاقية 1902، قد حسمت أمر الحدود بين البلدين، إلا أن الوجود الإثيوبي داخل الأراضي السودانية مستمر ويتزايد، ما يشير إلى وجود أطماع خفية من الطرف الآخر عبر تثبيت الواقع الحالي، موضحاً أن موافقة السلطات السودانية في مرحلة ما، على استخدام الإثيوبيين الأراضي السودانية الزراعية مع الاعتراف بسيادة السودان عليها، شجّع الجانب الإثيوبي كأجيال متعاقبة من المزارعين الأمهرا على التمدّد، ورسّخ لديهم مع تطاول الفترة الزمنية، بأن تلك الأراضي ربما توارثوها عن أجدادهم، بوضع اليد والحق التاريخيين المكتسب، ما يُصعَّب محاولات خروجهم.
ويرى حسين في حديث إلى "اندبندنت عربية"، أن التعداد السكاني المتزايد للشعب الإثيوبي، وتنامي احتياجاته الغذائية، مع شحّ الموارد والأراضي الزراعية السهلية المنبسطة، تبقى عاملاً آخر ضمن التعقيدات التي تغذي محاولات إثيوبيا المستمرة للحفاظ على البقاء داخل الأراضي السودانية، فضلاً عن أن التركيبة القبلية للدولة الإثيوبية، تضيف تعقيداً جديداً، بحكم أن إقليم الأمهرا المجاور للحدود الشرقية عند ولاية القضارف ومنطقة الفشقة، يشكل ضغطاً سياسياً على حكومة أديس أبابا، ويجعلها مغلولة اليد إلى حد كبير، ولا تملك الكثير من الأدوات لكبح رغبة تلك المجموعات في البقاء والتوسع بالزراعة داخل الأرض السودانية.
لماذا عدم الالتزام؟
في المقابل، يتساءل أحمد عبد الرحيم العوض، وهو من قدامى المزارعين بمنطقة القضارف في حديثه إلى "اندبندنت عربية"، عن سبب عدم التزام الجانب الإثيوبي باتفاقيات ترسيم الحدود الموقعة بين البلدين، لأن البديل من جانبنا كمواطنين ومزارعين، هو أن نسترد أراضينا بالقوة أيضاً، ما يعني المزيد من الاشتباكات والتوتر على الحدود وربما تخريب علاقات البلدين.
وطالب العوض الحكومة السودانية بتعزيز الوجود الأمني والعسكري، وإظهار قوة الدولة هناك، والعمل على استرداد تلك الأراضي، بخاصة أن التحركات العسكرية الأخيرة قد أفلحت في استرجاع القليل من تلك الأراضي المغتصبة.
وأضاف "تاريخياً كان الإثيوبيون، يستأذنون السلطات الأهلية عند رغبتهم في الزراعة ووفق القوانين واللوائح، وتحت مظلة سودانية، إلا أن الأمر تطور إلى انتزاع الأراضي، والاستيلاء عليها بقوة السلاح، حتى وصلت المساحة المسلوبة إلى حوالي المليون فدان، من الأراضي البكر العالية الخصوبة".
مطالبات بحسم الحدود
من جهة ثانية، نفذت مجموعات من مواطني ولاية القضارف وقفة احتجاجية أمام مكتب والي الولاية، تنديداً بالاعتداءات الإثيوبية المتكررة على الأراضي الزراعية، والمطالبة باستعادة الأراضي السودانية، وإغلاق القنصلية الإثيوبية بالقضارف وكل المعابر وإيقاف أي مفاوضات مع الطرف الآخر إلى حين عودة كامل الشريط الحدودي وفق حدود 1902.
وأعلن مصعب محمد صالح أحد المزارعين الذين فقدو أراضيهم، أن التصعيد سيستمر بوقفات أخرى في كل مدن شرق السودان وبالعاصمة الخرطوم إلى حين تحقق مطالبهم.
ويسعى وفد شعبي يضم قوى الحرية والتغيير وجمعية الدبلوماسية الشعبية بالقضارف، إلى بحث استرداد الأراضي السودانية بمنطقة الفشقة الحدودية، ومناقشة إمكانية استفادة المزارعين الإثيوبيين كمستثمرين، وفقاً لقانون الاستثمار السوداني.
ويبحث الوفد بمدينة الحمرة عاصمة محافظة غرب التقراي الإثيوبية هذا الأسبوع، حلّ النزاع على الأراضي الزراعية الحدودية، وتأكيد حق السودان في أراضيه المعترف بها دولياً، وإيقاف الاعتداءات والخروقات، والأنشطة الهدامة التي تعكّر صفو العلاقات، للحفاظ على المصالح المشتركة على الصعيد الشعبي.