هل تفتح التمهيدات لاستئناف المفاوضات بين لبنان وإسرائيل حول ترسيم الحدود البحرية والبرية بوساطة من الولايات المتحدة الأميركية وتحت مظلة الأمم المتحدة وقيادة قوات حفظ السلام التابعة لها في جنوب لبنان، كوّة في تشنّج العلاقة بين بيروت وواشنطن؟
فتسريب المعلومات عن نية استئناف هذه المفاوضات بعد توقف دام أكثر من عام الخميس في التاسع من يوليو (تموز) على إثر اجتماع السفيرة الأميركية دوروثي شيا مع رئيس البرلمان نبيه بري مرّ مرور الكرام في خضمّ المشكلات الكبرى التي يعيشها لبنان، وفي ظل استمرار تبادل الحملات السياسية والإعلامية بين واشنطن و"حزب الله" وملاحقة كل منهما لكل ما يقوله عن الآخر وسط تصاعد الصراع بين الإدارة الأميركية وطهران.
استئناف التفاوض
وما تسرّب من أوساط بري عن هذا التطور أن السفيرة شيا طرحت عليه استئناف التفاوض حول ترسيم الحدود، مع إشارة هذه الأوساط إلى أن هناك "إشارات إيجابية" في هذا المجال، أحجمت عن توضيح طبيعتها، تاركةً الأمر للتكهنات عَمّا إذا كان مصدر هذه "الإيجابية" تل أبيب أو واشنطن، أما سبب السؤال عَمّا إذا كان تحريك واشنطن البحث بالأمر يمكن أن يؤشر إلى "فتح كوّة" في جفاء العلاقة بينها ولبنان، فيعود إلى معلومات كانت تتردّد في الدوائر السياسية الضيقة في بيروت عن أن إقبال البلاد على
التفاوض على ترسيم الحدود مع إسرائيل قد يسمح بالتخفيف من شروط أميركا تجاه مساعدة لبنان في تجاوز أزمته المالية، عبر تسهيل إقراضه بضع مليارات من الدولارات تخفّف من وطأة شحّ الدولار في مصارفه، وتلجم الارتفاع الجنوني لسعر صرف العملة، في انتظار تطبيق خطة التعافي الاقتصادي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الحرص الأميركي على أمن إسرائيل
وأفادت مصادر سياسية وثيقة الاطّلاع على موقف الولايات المتحدة، "اندبندنت عربية" بأنّ إعطاء الجانب الأميركي الأولوية لأمن إسرائيل، مع إعلانها عن دورة تراخيص للتنقيب عن النفط والغاز في البلوك الرقم 72، المحاذي للبلوك الرقم تسعة العائد إلى لبنان (التزم التنقيب فيه كونسورتيوم ثلاث شركات)، جعله يسرّ إلى الجانب اللبناني، لا سيما فريق رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس "التيار الوطني الحر" جبران باسيل بوجوب تنشيط التفاوض على ترسيم الحدود مع إسرائيل، كواحد من مؤشرات تحسين العلاقة مع واشنطن التي أبدى باسيل حرصاً على الانفتاح عليها لنزع تهمة انحيازه إلى "حزب الله" وإيران في صراع واشنطن معهما، فالإدارة الأميركية لا تريد نزاعاً نتيجة الخلاف على الحدود البحرية، هذا من جهة، ومن جهة ثانية، الشائع في بيروت أن باسيل يسعى منذ أشهر إلى تحسين صورته لدى الجانب الأميركي بعد النكسة التي أُصيبت بها هذه الصورة نتيجة اتّهامه بأن مواقفه وتحالفه مع الحزب سبب رئيس لعزل لبنان عن الدول العربية وعن دول الغرب.
ورقة التفاوض بيد عون أو بري؟
وسبق لـ"اندبندت عربية" أن سمعت من أوساط دبلوماسية غربية أن واشنطن تعلّق أهمية على ترسيم الحدود اللبنانية الإسرائيلية في البحر والبرّ، لنزع أي حجة في يد "حزب الله" للإبقاء على مبرّر النزاع الحدودي من أجل الإمساك بورقة إطلاق أي صدام عسكري بين الجانبين وتوظيفه في إطار المواجهة الأميركية الإيرانية، كما أنها تعتبر أن معالجة مسألة الحدود تضعف حجّة الحزب للاحتفاظ بسلاحه، الذي تطالب بنزعه، وكانت المصادر السياسية الواسعة الاطّلاع قالت لـ"اندبندنت عربية" إن فريق الرئاسة ومعه باسيل أراد تسليف الجانب الأميركي مسألة الإقبال على استئناف التفاوض على ترسيم الحدود، وراودته فكرة استرداد ورقة التفاوض على الترسيم من الرئيس بري، الذي جرى جسّ نبضه عبر أحد الوسطاء، فبري مكلّف بهذا الملف منذ مطلع عام 2019 نتيجة توافق بين الرئيس عون ورئيس البرلمان ورئيس الحكومة السابق سعد الحريري آنذاك، وبموافقة من "حزب الله" الذي يحرص على تسليم التفاوض إلى جهة يثق بأنها تنسّق معه، نظراً إلى أنه ينظر إلى معالجة هذا النزاع مع إسرائيل في إطار الصراع الدائر في المنطقة ككل.
وعلمت "اندبندت عربية" أن بري ردّ (قبل حوالى ثلاثة أسابيع) على الوسيط الذي اقترح عليه نقل الملف إلى الرئيس عون بالقول "اذهبوا إلى عند "حزب الله" واتفقوا معه"، وإزاء عدم نجاح فكرة نقل مرجعية التفاوض إلى عون، عادت السفيرة شيا إلى طرح الأمر مع بري، الذي كانت له جولات من المباحثات حول هذا الملف عام 2019 مع مساعد وزير الخارجية السابق لشؤون الشرق الأوسط السفير ديفيد ساترفيلد، الذي غادر هذا المنصب وانتقل سفيراً لدى تركيا، ليحلّ مكانه السفير ديفيد شنكر في ربيع العام ذاته.
وعلى الرغم من أن مصادر بري برّرت تجديد السفيرة شيا عرض استئناف التفاوض بأن سفر شنكر إلى لبنان كان متعذّراً في الأشهر الماضية بسبب جائحة كورونا، وأن تنقّل المسؤولين الأميركيين بين الدول بات ممكناً الآن، بالتالي شنكر سيأتي إلى بيروت من أجل متابعة وساطته، فإنّ المراقبين طرحوا السؤال عَمّا إذا كان الجانب الأميركي يختبر استعداد لبنان ومن ورائه حلفاء "حزب الله" لتليين مواقفهم من مسألة ترسيم الحدود، كما أن بري أبدى استعداداً لمعاودة التفاوض واغتنم الفرصة ليطلب من شيا أن توافق واشنطن على منح لبنان إعفاءات من العقوبات التي يفرضها قانون "قيصر" على التعامل مع النظام السوري، أسوة بالإعفاءات التي تمنحها للعراق من العقوبات على إيران نتيجة تعامله معها، وشجّعها على زيارة رئيس الحكومة حسان دياب لهذا الغرض، ولهذا زارته في اليوم التالي.
في آلية التفاوض وتفاصيله التقنية
زار شنكر لبنان في 11 سبتمبر (أيلول) 2019 لمعالجة النقاط التي كانت وساطة السفير ساترفيلد توقّفت عندها، ثم قال لاحقاً إنّ استئناف الدور الأميركي الوسيط ينتظر جواب الجانب اللبناني على اقتراحات أميركية، أما الرئيس بري، فكان يردّد أمام زواره بأن بيروت كانت تنتظر جواب الولايات المتحدة.
البحث عالق عند الآلية
وللتذكير، فإنّ المفاوضات لم تكن قد تناولت جوهر ترسيم الحدود مع ساترفيلد ثم مع شنكر، بل كانت اقتصرت على الآلية التي ستُعتمد في التفاوض، والتي حُسم منها أنها ستتم في مقرّ قيادة قوات الأمم في الناقورة، يحضرها ضباط متخصّصون من الجيشين اللبناني والإسرائيلي والجانب الأميركي كوسيط، بينما ترعى الأمم المتحدة المحادثات ويقتصر دورها على تسجيل تفصيلي لمواقف الطرفين ولأي اتفاق محتمل بينهما، وكانت واشنطن أقنعت تل أبيب بدور الأمم المتحدة في التفاوض كونها الجهة التي ستُسجَّل لديها خرائط الاتفاق المفترض بعد إنجازه، فالجانب الإسرائيلي لديه موقف مبدئي سلبي من أي دور للمنظمة الدولية في نزاعه مع الدول العربية ولبنان لأنه يركّز على مبدأ المفاوضات الثنائية والمباشرة ولا يقبل إلّا بدور أميركي.
وبعد خمس زيارات قام بها ساترفيلد إلى لبنان وإسرائيل بين مطلع العام الماضي ومايو (أيار) منه، عُلّقت آلية التفاوض التي أصرّ بري على أن تكون مكتوبة، عند نقطتين جوهريتين، التوغّل الإسرائيلي في النقطة B1 وإصرار بري أولاً أن تنصّ الآلية على الربط بين الاتفاق على الحدود البرية وبين الاتفاق على الحدود البحرية، بحيث أنه في حال التوافق على واحدة من هاتين الحدودين، يصبح ساقطاً إذا فشل التفاوض على الحدود الأخرى، وسبب هذا الإصرار أن الجانب الإسرائيلي يشدّد على الحصول على تنازلات لبنانية على الحدود البرية تُسمّى النقطة B1 بالقرب من الناقورة المحاذية للبحر، وهي إحدى النقاط الـ 13 التي كان متنازعاً عليها وجرى تصحيح معظمها بالتعاون مع الأمم المتحدة وبقيت نقطتان أو ثلاث تحتاج إلى معالجتها، والنقطة المذكورة توغّل فيها الجانب الإسرائيلي بعمق 35 متراً وبطول مئات الأمتار داخل أراض يعتبرها لبنان عائدة له، وتمسّك الجانب الإسرائيلي بالاحتفاظ بها بحجة أمنية هي أنها تقع على تلة يمكن للجانب اللبناني أن يطلّ منها على موقع سياحي كبير في الجانب الإسرائيلي ويمكن منها تهديد هذا الموقع.
مئات الأميال البحرية
ويساند الجانب الأميركي إسرائيل في ذلك، وعلى الرغم من أن تل أبيب اقترحت مبادلة تلك البقعة بأراض مساحتها أكبر في بقعة تقع بعيداً من الناقورة، فإن الجانب اللبناني رفض نتيجة عملية حسابية تفيد بأن الانطلاق من نقطة الحدود هذه التي صادرتها إسرائيل لرسم خط الحدود البحرية كونها قريبة جداً من الشاطئ، يضيّع على لبنان مئات الأميال البحرية في المنطقة الاقتصادية الخالصة، تفوق مساحة الـ 860 كيلومتراً مربعاً الواقعة في البلوك الرقم تسعة النفطي العائد إلى لبنان، وهذا ما تنبّه إليه خبراء توبوغراف استند بري إليهم في دراسته لمسألة التفاوض مع إسرائيل، إذ إنّ الخط المنطلق من البر(adjacent) لن يكون لصالح لبنان، بل إن تصويب الحدود البرية قد يجعل لبنان يكسب مساحة بحرية تفوق مساحة البلوك رقم تسعة الحالية، ولهذا يصرّ بري على الربط بين ترسيم الحدود في البحر والبر، لكن إسرائيل عادت فوافقت لكن على ألّا يتم النص على الربط بينهما، وعلى أن يكون التفاهم على هذه النقطة شفهياً بضمانة الوسيط الأميركي الذي أيّد الموقف الإسرائيلي في حينها.
وثانياً، أصرّت إسرائيل على وضع جدول زمني للتفاوض هو ستة أشهر، بينما رفض بري ذلك خشية أن تماطل تل أبيب إذا رفضت الأخذ بالمقاربة اللبنانية لمسألة الحدود لإيصال المفاوضات إلى الفشل بعد هذه المدة واتهام بيروت بأنها سبب إخفاقها.