هذه رسالة لم يتسلّمها المرسل إليه على الإطلاق كما أنه مات من دون أن يعرف شيئاً عن مرسلها. وليس ذلك فقط لأنها لم تكتب إلا بعد مئات السنين من موت بيكون، بل أكثر من هذا لأن المرسل نفسه لم يوجد إطلاقاً لا في زمن بيكون ولا في الزمن الذي كتبت فيه الرسالة، أي في عام 1902. لم يوجد على الإطلاق بل كان من اختراع الكاتب الحقيقي لها هوغو فون هوفمنشتال الذي كان يُعتبر واحداً من كبار الشعراء والكتاب والمفكرين في فيينا خلال المرحلة الفاصلة بين القرنين التاسع عشر والعشرين. ولئن كان هوفمنشتال قد اشتهر بخاصة كشاعر وكاتب روائي ومسرحي ونال تقديراً كبيراً على إبداعه من جانب مبدعين لا يقلون أهمية عن فرويد وتسفايغ وبروخ وصولاً إلى هانا آرندت، فإن هذا النص لم يكن مبدَعاً أدبياً بل رسالة فكرية صاغها الكاتب ليشكو فيها همّاً أقلقه واستبد به: همّ اللغة. فهو، وكما سيكتب زميله وصديقه فتغنشتاين أحد أساطين فلسفة اللغة لاحقاً، وجد نفسه ذات يوم عاجزاً عن التعبير فوجّه تلك الرسالة إلى الفيلسوف الإنجليزي كاتباً إياها تحت قناع ذلك اللورد الذي شاء من خلاله أن ينعى زمناً بأسره من خلال نعيه اللغة.
منجزات اللورد الضائع
ويبدأ الكاتب رسالته باستعراض منجزاته – أي منجزات اللورد شاندوس – الأدبية العظيمة واصفاً إياها واشتغاله على اللغة فيها حتى اللحظة التي بات يشعر معها بأن لغته، اللغة عموماً، لم تعد قادرة على التعبير عما يريد قوله. ليس لأن أفكاره توسعت وتضخمت بحيث باتت في حاجة إلى توسّع لغوي أيضاً، بل ببساطة لأن التعبير بات يخونه جدياً في مجال تطلعه إلى "التعبير عن التجربة الإنسانية" كما كان حاله دائماً. "لقد بتّ يا سيدي عاجزاً عن التعبير عن نفسي بطريقة ذات معنى". يكتب "شاندوس" قبل أن يلاحظ هنا أن حالته هذه لم تحدث بشكل مباغت، بل بصورة تدريجية: "في البداية وجدت نفسي عاجزاً عن خوض أيّ حديث أكاديمي يتعلق بالأخلاق والفلسفة" وبعد ذلك "لاحظت أنني بتّ أفتقر إلى القدرة على خوض أي محادثة في الحياة اليومية تتعلق بالآراء والأحكام"، ثم إثر ذلك "شعرت بعدم استجابة اللغة لأي شيء أريد قوله" وهكذا، يتابع شاندوس في رسالته، "توجهت صوب الكلاسيكيين من أمثال سينيكا وشيشرون وغيرهما ممن نعرف الكثير عن امتلاكهم ناصية اللغة لعلي أعثر لديهم على ترياق ما، ولكن عبثاً، ما زاد من استشراء حالتي وصرت إلى الانهيار التعبيري التام أقرب" بل وصل الأمر مع صاحبنا ليس فقط إلى خسران القدرة على التعبير بل كذلك على التفكير. صحيح أن شاندوس، كما تفيدنا الرسالة، قد يحدث له أحياناً الآن أن يتملك تعبيرات دينية معينة ما يوصله إلى لغة تجاوزية، غير أن ذلك يقتصر على برهات سريعة الزوال، فما العمل؟ إن لم يتمكن من العثور على ترياق، يقول شاندوس، إنه سوف يتوقف عن الكتابة على الإطلاق!
كتب هوفمنشتال هذه الرسالة اذن لتعكس عجز اللغة لدى كاتب كان يمكن أن يُعتبر أنا/آخر له، بل هكذا نظر النقاد والمفكرون في حينه إلى ذلك النص. لكن المشكلة كمنت في أن اللغة نفسها التي كُتبت بها الرسالة كانت من قوة التعبير إلى درجة أن الأمر كله حمل قدراً كبيراً من المفارقة، ناهيك بأن لا بيكون أعانه ولا أعانه أحد، ومع ذلك نراه وقد واصل الكتابة سنوات وسنوات تالية. فما الحكاية؟
مفرد بصيغة الجمع
الحكاية أن هوفنشتال يبدو هنا وكأنه لا يعبر عن نفسه بقدر ما يعبر عن مناخ عام في زمن كان من المتفق عليه فيه بين مؤرخي الأدب والفن في القرن العشرين أن فيينا، عاصمة النمسا، كانت خلال الفترة الانعطافية بين القرنين التاسع عشر والعشرين، ترمز في حد ذاتها، بحياتها الثقافية، بإبداعاتها المغلقة من قلق الأسئلة حول الموت والانهيار الحتمي، ومن الإحساس بـ "الكابوس السعيد"، تمثل لغة العصر وتعبّر عن أزمته أكثر مما بإمكان أي مدينة أخرى أن تعبّر. ففيينا كانت في ذلك الحين عاصمة أساسية من عواصم الحداثة، بل عاصمتها الأساسية، إن أقمنا الرابط الضروري بين الفنون والآداب وعلم الاجتماع وعلم النفس ووضعنا الجميع في بوتقة واحدة. وإذا كان من فرد يمكنه وحده أن يرمز إلى كل ما كانت ترمز إليه فيينا في ذلك العصر، فإن هذا الفرد لن يكون غير الشاعر والكاتب المسرحي هوغو فون هوفمنشتال، الذي بجذوره البلقانية/ النمسوية/ الإيطالية/ اليهودية وبتربيته البورجوازية على الرغم من انهيار الأحوال الاجتماعية لأسرته، وبثقافته الرفيعة (كان يتقن خمس لغات ويقرأ بسبع لغات على الأقل)، وبخوضه باكراً معترك الحياة الثقافية، وباستعلائه على كل التيارات التي كان ينخرط فيها ثم يتركها، وبنزعته المطلقة إلى أوروبا خارج إطار الإمبراطورية النمسوية/ المجرية المتداعية، كان يمثل خير تمثيل نمط المثقف الذي كان يرى نفسه في ذلك الحين مساوياً للكون ومتجاوزاً المكان والبشر.
وإذا أضفنا إلى هذا كله نهاية كاتبنا، الذي لم يصمد طويلاً أمام انتحار ابنه، فإذا به يقع ميتاً يوم دفن هذا الأخير في صيف عام 1929، نصبح مرة واحدة في مواجهة مصير فيينا نفسها. فيينا مدينة القلق والموت التي كان الجنون والانتحار مصير معظم مبدعيها في تلك المرحلة.
غير أن ما يبقى من هوفمنشتال حتى يومنا هذا إنما هو مكانته كواحد من كبار كتاب المسرح عند مطالع القرن العشرين، بل ولربما كان واحداً من آخر الحداثيين الذين رأوا أن الحداثة لا يمكن أن تمر إلا من خلال استعادة الكلاسيكية اليونانية.
كاتب منذ سن المراهقة
ولد هوفمنشتال في فيينا العام 1874، وكان لا يزال في السادسة عشرة من عمره حين انخرط في الحياة الثقافية بارتياده حلقة كتاب "فيينا الفتاة" المتحلّقة في مقهى "غرينشتدل" من حول شنيتزلر الذي قال عنه أول ما اطلع على أعماله إنه "أول عبقري يلتقي به في حياته". وفي ذلك العام نفسه أصدر هوفمنشتال مجموعته الشعرية الأولى بتوقيع مستعار، وكان يغلب عليها طابع روحي واضح يطرح أسئلته حول الموت والخلود وحياة الروح ضمن إطار رومانسي بيّن. غير أن هوفمنشتال سرعان ما انصرف عن تلك الحلقة ليقع تحت تأثير الكتاب الفرنسيين (كلوديل، بورجيه، وموريس باريس)، وبعد ذلك قام بزيارة قادته إلى فرنسا وإيطاليا ثم أسس مع ستيفان جورج مجلة سرعان ما تخلى عنها ليصدر خلال المرحلة التالية مسرحياته الأولى ذات النفس الشعري وأبرزها "موت تيتيان" و"الموت والمجنون" اللتان تطرحان أسئلة لا تنتهي حول معنى الموت والحياة أمام الموت الحتمي. وفي الوقت نفسه غاص الكاتب الشاب في الكلاسيكيات فاقتبس يوريبيدس وقرأ غوته وشكسبير. أما أول مسرحية عرضت له فكانت "امرأة عند نافذتها" التي قدمت العام 1898 في برلين. وفي العام التالي نال هوفمنشتال شهادة الدكتوراه وانصرف ليدرس مسار الفرنسي فيكتور هوغو لكنه عاد وابتعد عنه ليستعيد علاقته بالكتابة الأدبية فينشر طبعة ثانية معدلة من كتابه الأساسي "مسرح العالم" ثم "رسائل إلى اللورد شاندوس" التي تعتبر في أساس الحداثة الأدبية في النمسا المعاصرة بسبب تعبيرها عن مناخات القلق والشك أمام اللغة، والشك أمام كل نوع من أنواع التواصل. وفي تلك الاثناء انصرف هوفمنشتال إلى كتابة النصوص لأوبريت ريتشارد شتراوس. ثم أتت الحرب لتحدث قطيعة في مساره العملي، قطيعة عاد منها في العام 1918 وقد استبدت به نزعة محافظة ورجعية سوف لن تتركه بعد ذلك أبداً. إذ إن أعماله اللاحقة حملت نزعة تؤلّه الماضي وتحنّ إليه، وتحاول أن تنقذ ما يمكن بعد إنقاذه من حضارة وثقافة ومدينة تموت.
عندما مات هوفمنشتال يوم جنازة ابنه المنتحر كان قد أضحى بالنسبة إلى الأجيال الجديدة جزءاً من الماضي، ولكن سنوات الأربعين والكابوس الذي دمرها، عادت لكشف أعماله من جديد، فاعتبر صورة لقلق العصر وآلامه.