ارتفعت في الأيام القليلة الماضية وتيرة التحذيرات الخارجية مِمّا وصلت إليه الأوضاع في لبنان، الرازح تحت وطأة أزمة اقتصادية ومالية ونقدية واجتماعية غير مسبوقة في تاريخ البلاد. وأجمعت هذه التحذيرات على الإعراب عن القلق الكبير من فقدان السلطات اللبنانية سيطرتها على التردّي في الأوضاع، الذي سينعكس انفجاراً اجتماعياً وربما أمنياً، بعدما تحوّلت الاحتجاجات الشعبية السلمية التي انطلقت في 17 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إلى مجموعات تلوذ بالعنف وسيلةً للتعبير عن رفضها للواقع، فيما تستغلّ بعض قوى السلطة التحرّكات الاحتجاجية لحرفها عن أهدافها ومسارها.
وبينما كان الضغط الأميركي العنصر الأبرز في المواجهة التي تشهدها البلاد بين واشنطن وطهران، وسط تراجع للدورَيْن العربي والأوروبي، تحديداً الفرنسي، برز كلام وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان أمام مجلس الشيوخ الذي عبّر فيه عن استياء وقلق كبيرين حيال أداء السلطات في بيروت، بالتزامن مع صدور موقف أممي يحذر من خروج الوضع في لبنان عن السيطرة.
وما عزّز المواقف الدولية المستاءة، التقارير الغربية عن الوضع اللبناني التي تعكس مؤشرات خطيرة من التراجع وانحلال الدولة ومؤسساتها. وفيما كان التعويل على لجوء الحكومة اللبنانية إلى صندوق النقد الدولي من أجل وضع برنامج يساعد على انتشال البلد من أزمته، بدا المسار التفاوضي على امتداد 17 جلسة من المفاوضات أمام طريق مسدود، في ظلّ عجز الوفد اللبناني المفاوض على تقديم مقاربة واضحة، أو الردّ بشفافية ووضوح على الأسئلة المطروحة في الملفات الشائكة مثل المالية العامة والهدر والفساد والكهرباء والمناقصات العمومية والحدود المفتوحة أمام التهريب.
الأكثر ضعفاً معرّضون للموت
هل التكهنات والتوقعات بخروج الوضع عن السيطرة في محلها، أو تأتي في سياق الضغوط الدولية التي تُمارَس على الحكم في لبنان لحثه على السير بالإصلاحات المطلوبة وملاقاة شروط المجتمع الدولي حيال لجم نفوذ "حزب الله"؟
في أقل من أسبوع، برز أكثر من موقف دولي ضاغط في هذا الاتجاه. فبعد كلام وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، الذي يأتي في سياق مواقف مماثلة لمسؤولين في الإدارة الأميركية، عن أن الدعم للبنان مشروط بتنفيذه إصلاحات جدية، وأن لا يكون وكيلاً لإيران، رفع وزير خارجية فرنسا جان إيف لودريان سقف التصعيد، بتحذيره من خطر انهيار لبنان، وذلك على مسافة يومين من صدور تقرير عن "ميريل لينش- بنك أوف أميركا" يتوقع وصول سعر صرف العملة اللبنانية إزاء الدولار الأميركي إلى 46 ألف ليرة.
وتزامنت هذه المواقف السياسية مع إنذار أممي عبّرت عنه مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان ميشيل باشليه، يوم الجمعة الماضي، من أن الوضع يخرج بسرعة عن السيطرة، واللبنانيون الأكثر ضعفاً يواجهون خطر الموت بسبب هذه الأزمة، داعيةً إلى التحرك فوراً قبل فوات الآوان، وطالبةً من الحكومة اللبنانية والأحزاب السياسية الشروع بإصلاحات عاجلة، وكاشفةً عن وجود 1.7 مليون لاجئ، غالبيتهم من السوريين، إضافةً إلى 250 ألف عامل من المهاجرين فقدوا وظائفهم.
أمام هذه الصورة، وعلى الرغم من الإيجابيات التي حرص رئيس الحكومة حسان دياب على بثها بعد لقائه السفيرة الأميركية لدى لبنان دورتي شيا، عن استمرار التعاون بين البلدين، وطلبه دعم واشنطن في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، يصحّ القول إن عوامل عدّة تدفع في اتجاه تعزيز احتمالات خروج الوضع في البلاد عن السيطرة. ويمكن اختصار هذه العوامل بالتالي:
- إن تطمينات رئيس الحكومة بعد لقائه شيا جاءت على لسانه، وليس عبر بيان مشترك، أو أقلّه موقف عن السفيرة يؤكد تلك التطمينات، ما يجعلها تأتي من طرف واحد، ولا تعكس موقفاً أميركياً واضحاً لم يتغيّر حيال لبنان، وكان الأكثر تعبيراً عنه وزير الخارجية الأميركي. ذلك أن واشنطن لم تتراجع عن دعم لبنان ومؤسساته العسكرية، وتفصل بين هذا الدعم وبين ملف العقوبات على "حزب الله" وحلفائه لتضييق الخناق عليه.
- إن التعويل على انفتاح عربي على لبنان ليس في محله، ولم تتبلور أي ملامح له. فرئيس الحكومة لم ينجح حتى الآن في خرق الحظر وزيارة أي دولة عربية، كما كان أعلن لدى تولّيه مهماته قبل أربعة أشهر. كما أن إشاعة أجواء إيجابية عن تعاطف قطري- كويتي مع لبنان من خلال الكلام عن وديعتين محتملتين للدولتين في المصرف المركزي، ليس أمراً جديداً، بل يعود إلى فترة بعيدة ولم يطبّق حتى الآن. أما رسالة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى رئيس الجمهورية، فهي تأتي متأخرة شهرين عن موعد تسلّم الأول رسالة من الرئيس اللبناني.
- إن البلاد على موعد مع محطة مفصلية لا بد من أن تنعكس على مسار الأزمة الداخلية، إذ يترقب صدور حكم المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في قضية اغتيال الرئيس الأسبق للحكومة رفيق الحريري في 7 أغسطس (آب) المقبل، مع ما سيرتبه ذلك على الساحة الداخلية من توتّرات، بقطع النظر عَمّا سيكون عليه الحكم، وما إذا كان سيتّهم عناصر "حزب الله" الأربعة المتهمين أو لا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
- على المستوى الاقتصادي، يتسبّب تعثر المفاوضات مع صندوق النقد الدولي بكثير من العقبات أمام دخول لبنان قريباً في برنامج مع الصندوق يفتح أمامه فرصة الخروج من الانهيار. ذلك أن أجواء المفاوضات لا تشي بأي تقدّم، مع استمرار الوفد اللبناني بمباركة المماطلة والمراوغة والتذاكي على وفد الصندوق. وفي حين تؤكد مصادر الأخير أنه ليس في وارد تعليق المفاوضات في هذه المرحلة، إلّا أنّه لا يزال ينتظر بعض الأجوبة الشفافة عن الأسئلة التي يطرحها، كما ينتظر بعض الإشارات الإصلاحية الجدّية التي لم تبادر بعد الحكومة إلى اتّخاذ أي منها. وهذا ما يضع لبنان في حالة استجداء الدعم من دون تقديم أي نيّات إصلاحية جدية ينتظرها المجتمع الدولي والدول والمؤسسات المانحة.
- لا أفق لأي استثمارات خارجية أو تدفقات مالية يمكنها أن تنتشل البلاد من أزمتها، في ظلّ اضطراب المناخ الاستثماري وعدم استقرار سعر العملة، أو التشريعات المحفّزة للاستثمار في بيئة على درجة عالية من المخاطر.
- كل المؤشرات الاقتصادية مستمرة في التدهور بوتيرة متسارعة. فالنمو لا يزال على مسار انكماشي بلغ 12 في المئة سلبي، وميزان المدفوعات لا يزال يسجّل عجزاً تراكمياً بلغ في النصف الأول من السنة الحالية 5.8 مليارات دولار، في ظلّ أزمة سيولة حادة، وتراجع في التحويلات الخارجية بشكل غير مسبوق، على الرغم من تراجع فاتورة الاستيراد. أما على صعيد المالية العامة، فقد تخطّى العجز في الموازنة العامة نسبة 11 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، الذي تراجع بدوره من 58 مليار دولار إلى نحو 48 ملياراً (وفق تقديرات جمعية المصارف، وخلافاً لأرقام الخطة الاقتصادية للحكومة التي تقيّم الناتج على سعر دولار وسطي مقدّر بـ3500 ليرة)، وسجّل العجز في الميزان الجاري نسبة 24 في المئة من الناتج، وارتفعت نسبة الدين العام إلى الناتج إلى 178 في المئة.
دياب: كل شيء تحت السيطرة
في المقابل، يعلّق رئيس الحكومة على هذه التوقعات السلبية بتأكيده أن لبنان لن يخرج عن السيطرة طالما هو في السلطة، مشدّداً على أن لا استقالة للحكومة أو لأي من وزرائها. وهذا ما يعني بالنسبة إلى الأوساط الاقتصادية والمالية المراقبة، استمراراً لحال الإنكار التي تعيشها السلطة في البلاد، وما يعني استمرار وتيرة التدهور، بحيث تفقد هذه السلطة القدرة على السيطرة على الأوضاع. وترى هذه الأوساط أن المخرج أمام لبنان من هذه الكارثة لن يكون إلّا بالذهاب إلى إعادة تكوين سلطة جديدة، والذهاب فوراً إلى برنامج سريع مع صندوق النقد قبل فوات الآوان.