إذا صدّقنا ما يوحي به الرسام الفطري الجمركجي روسو من خلال لوحته الشهيرة التي يصوّر فيها الشاعر أبولينير في صحبة الرسامة ماري لورانسان، بأن هذين المبدعين كانا عاشقين، سيدهشنا كيف أن الشاعر الذي عُرف أيضاً كناقد تشكيلي، لم يخصّ "حبيبته" بنصوص مطوّلة مكتفياً بأن يذكرها في مقالاته عرضاً وفي أحسن الأحوال، بأن ينقل آراء طيّبة فيها وفي رسومها عن آخرين. هل كان ذلك عن حياء أم عن عدم إيمان حقيقي بموهبتها؟ يصعب أن نجيب عن هذا السؤال بشكل قاطع، لكنّنا في المقابل لا نجد مفرّاً في كل مرة تُذكر فيها لورانسان من أن نفكّر بأبولينير، إن لم يكن لأنه اهتم بها وبفنها إلّا عند الحدود الدنيا، فلأنها هي اهتمّت به كثيراً ورسمته في عدد من اللوحات، وكأنّنا هنا أمام حكاية مشابهة هي حكاية فريدا كاهلو مع حبيبها وزوجها دييغو ريفيرا، إذ نجده ماثلاً في حياتها ورسومها أكثر بكثير مِمَّا هي حاضرة في حياته وأعماله.
من بين لوحات عدّة "خلّدت" فيها ماري لورانسان "ملهمها"، تبرز تلك المعنونة "أبولينير وأصدقاؤه" – النسخة الثانية، التي رسمتها الفنانة عام 1909 بعرض 194 سم وارتفاع 130 سم، وعُرفت كذلك بعناوين أخرى عدّة مثل "اجتماع في الريف" و"الصحبة النبيلة" و"موعد الأصدقاء"... ولكن يظلّ العنوان الأشهر هو ذاك الذي يربط اللوحة باسم غيّوم أبولينير، كما أصرّت ماري، على اعتبار أن هذا الأخير يبقى هو مركز اللوحة ونقطة الأساس فيها بصرف النظر عن أهمية ومكانة الأشخاص الآخرين المرسومين فيها. ففي نهاية الأمر، لم ترسم ماري هذه اللوحة إلّا تكريماً لأبولينير وتخليداً لمكانته كشاعر وأيضاً كناقد تشكيلي. أما المحيطون به، فهم من اليسار إلى اليمين الشاعرة الأميركية جرترود شتاين وصديقة بيكاسو وملهمته في ذلك الحين فرناند أوليفييه وامرأة أخرى لم يمكن تحديدها ثم فريكا، كلبة بيكاسو إلى جانب أبولينير نفسه الذي يجلس بيكاسو إلى جانبه الآخر، ثم صديقا هذا الأخير مرغريت جيلو وموريس غريمنتز وأخيراً ماري لورانسان نفسها جالسة وكأنها تعزف على آلة بيانو غير واضحة.
من الضواري إلى التكعيبيين
من الناحية الفنية تعبّر اللوحة عن فن لورانسان الذي بدا خاصاً جدّاً لدى انتقالها من النزعة "الضارية" إلى النزعة التكعيبية التي كان أبولينير نفسه من أوائل وأصلب المدافعين عنها، لا سيما لمناسبة انعقاد صالون المستقلين في باريس عام 1909. ومن المفيد أن نذكر هنا أن أبولينير نفسه نشر هذه اللوحة في كتابه الشهير "الرسم التكعيبي"، قائلاً في صددها "إن هذا الفن الأنثوي، فنّ الآنسة لورانسان ينحو للوصول إلى فن من نوع الأرابيسك، وقد أُضفيت عليه ملامح إنسانية تنمّ عن رصد نبيه للطبيعة وسماتها". وفي فقرة أخرى من الكتاب يقول الشاعر/ الناقد: "كان بيكاسو وبراك يُدخلان في لوحاتهما أحرف اليافطات وعدداً من الكتابات الأخرى، لأن الكتابة واليافطة في المدينة الحديثة، تلعبان، إضافةً إلى الدعاية، دوراً فنياً بالغ الأهمية، ولأنهما تتأقلمان بسرعة مع غاية هذا الفن. لقد حدث لبيكاسو في بعض المرات أن تخلّى عن الألوان الاعتيادية لكي يشكّل لوحات ذات شكل تجسيدي، صنع من مجسّدات من الورق المقوّى، أو من أوراق الجدران، كان يتبع في ذلك نوعاً من الإلهام التشكيلي، بحيث أن تلك المواد الغريبة، الخام والمتنوعة، سرعان ما اكتسبت مكانتها النبيلة، لأن الفنان نفخ فيها شخصيته التي هي في آن معاً، شخصية قوية وهشّة. وهذه الحركة ذاتها تنتمي إلىها أعمال جورج براك، جان متزنغر، البير غليز، خوان غري، وبعض أعمال ماري لورانسان...". تُرى، حين أدخل الشاعر، وناقد الفن الكبير غيوم أبولينير، اسم ماري لورانسان في هذا السياق المنتزع أصلاً من مقالة له عن الفن الحديث (في ذلك الحين) نُشرت بالألمانية في 1913، هل كان يعني حقاً أن هذه الفنانة تُعدُّ بين كبار أهل الفن التكعيبي، أم كان مجرد مجامل لها، هو الذي جرى حديث كثير عن العلاقة التي قامت بينهما؟
امرأة حسناء أم رسامة حقيقية؟
في أيامنا هذه، لم تجرِ العادة على أن يَرْدَ اسم ماري لورانسان في موسوعات الفن الكبرى، بحيث أن هذه المرأة - الرسامة التي شغلت الحياة الفنية الفرنسية ردحاً من الزمن عند بدايات هذا القرن، ظلّت شبه منسيّة، حتى ظهور وانتشار أغنية جو داسان "الصيف الهندي" لماذا؟ لمجرد أن هناك بيتاً في الأغنية يقول فيه المغني لحبيبته إنها تشبه لوحة مائية لماري لورانسان. ومن هنا، اندفع ملايين المعجبين بأغنية داسان للبحث عَمَّن تكون تلك الماري لورانسان! مع أنّ من يطالع نصوص أبولينير، يُفاجأ بعدد المرات التي يجري فيها الحديث عن ماري لورانسان وإن بشكل عابر، ناهيك بأن مجموعة أبولينير الشعرية "خمريات" تتضمّن عدداً كبيراً من القصائد المستوحاة من ماري لورانسان، ولكن من جمالها كامرأة، أكثر مِمّا هي مستوحاة من إبداعها كفنانة. فهل معنى هذا أن ماري لم تكن أكثر من صنيعة من صنائع أبولينير؟
الردّ إيجاباً على هذا السؤال قد يكون مغرياً اليوم، لكنه سيكون ظالماً بعض الشيء. مغرياً لأن نظرة إلى لوحات ماري لورانسان ومقارنتها بالمستوى الذي كانت بَلَغَتْه الحياة الفنية في زمنها، ستقولان لنا أنه كان من الصعب أخذ لوحاتها الهادئة والعذبة مأخذ الجدية، لأن فنها عادي، يُصنع في نهاية الأمر بين الفن الفطري (ولهذا تحدث أبولينير عنها ضمن إطار دراسة خصّ بها فن الجمركجي روسو، رائد الفن الفطري في فرنسا) وبين الفن التكعيبي (مع أن التكعيبيين أنفسهم رفضوا احتساب ماري لورانسان في صفوفهم). وظالماً، لأن قوة هذه الفنانة التي كانت ذات حضور طاغٍ في باريس تلك الأحايين، كمنت أساساً في رغبتها المعلنة بخوض فن كاد يكون عهد ذاك وقفاً على الرجال، وندر أن برزت فيه امرأة. ولعل رغبة ماري لورانسان في أن تكون رسامة "على الرغم من كل شيء" (كما كانت تقول هي نفسها)، هي ما أثار اهتمام أبولينير بها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في أرض غريبة
فالحال إن الفن التشكيلي (الرسم خصوصاً) كان، ومنذ عصر النهضة في أوروبا على الأقل، فناً رجالياً، على الرغم من كل ما يتطلّبه الفن من رهافة ومشاعر، ومن هنا إزاء ألوف الفنانين الذين برزوا وجعلوا للفن التشكيلي تاريخه، كان من النادر جداً أن تبرز فنانة امرأة. ومن هنا، حين برزت ماري لورانسان كان من الواضح أنها تخطو في أرض ليست أرضها. ومن هنا أهميتها واحتفاء بعض الوسط الفني بها. ولربما أتى ذلك الاحتفاء منطلقاً، بخاصة، من الاهتمام الذي أسبغه أبولينير باكراً على ماري لورانسان وفنها.
وُلدت ماري لورانسان عام 1885 في باريس، ولسوف تموت في باريس نفسها بعد ذلك بواحد وسبعين عاماً، أي عام 1956، من دون أن يُعرف عنها أنها غابت عن العاصمة الفرنسية طويلاً، فهي لم تكن مولعة بالسفر، وكذلك لم تكن شديدة الفضول. ولعل هذا ما أسهم في إضفاء صفة الجمود على تعابير موهبتها الفنية التي كانت قد تجلّت أول الأمر عام 1907، حين راحت ترسم لوحات اكتشفها أبولينير، وساعد في التعريف بها. ولعل الفترة الأخصب في حياة ماري لورانسان كرسامة، هي الفترة الواقعة بين 1907 و1912، أي تلك التي حققت فيها لوحات عدّة، ذات شخصيات خطية وألوان هلامية وتركيبات متكرّرة، بدا بوضوح أنها في نهاية الأمر مستوحاة من واحدة من مراحل بيكاسو هي المرحلة التي يُطلق عليها اسم "المرحلة الزنجية". لكن المؤلم أن ماري لورانسان جمدت عند ذلك المستوى طوال مراحلها التالية، حتى إن كانت قد أنتجت عشرات اللوحات وظلّت حاضرة في الحياة الفنية الفرنسية، سجالاً ورسماً وتشجيعاً - في وقت لاحق - ككل رسامة شابة تحاول أن تشقّ طريقها في عالم الفن التشكيلي، العالم الذي كانت ماري تأخذ عليه طابعه الذكوري، وتعتبر نفسها، إلى جانب صوفيا ديلانوي وفريدا كاهلو وليونور فيني وغيرهن، المرأة التي اخترقت ذلك العالم.