ملخص
أربع فتيات ولدن في بداية سبعينيات القرن الماضي، ذقن المعاناة في صغرهن، وتجرعنها في مراهقتهن ونضجهن الأنثوي. "الملوحة" عنوان سنواتهن الأكثر حساسية واحتياجاً ومرارة، منذ التحاقهن بالجامعة، حتى بلوغهن الـ40. معهن تتماهى الكاتبة المصرية منال السيد في روايتها "بنات الملح"، ناسجة من خبايا يومياتهن سردية جريئة في رؤيتها وبنيتها وغوصها الشفيف تحت الجلد.
من الحيل التي يلجأ إليها المؤلفون في الروايات الحديثة، لاسيما روايات الشخصيات، محاولة الإيهام بواقعية الشخوص والأحداث، وذلك من خلال خلق مسرح روائي إشكالي يضاهي تقريباً التجارب الحقيقية والاشتباكات الحياتية الفعلية لهؤلاء المؤلفين. في تلك المساحة الفنية البرزخية ينشد المؤلفون الصدقية والإقناع، إذ تذوب الحدود الفاصلة بين المعيش الملموس والمتخيل الدرامي، وتتلاشى المسافة بين تدوين المذكرات والمشاهدات اليومية وتخليق نسيج إبداعي خالص، يكون المؤلف فيه خارج الموضوع.
التوحد مع البطلات
تحت هذه المظلة، تقترح الروائية والتشكيلية المصرية منال السيد عالماً شديد الخصوصية في روايتها الجديدة "بنات الملح" الصادرة حديثاً في القاهرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة. هذا العالم يبدو كأنه يتعلق بها شخصياً بقدر ما يخص بطلاتها الأربع: عالية وفريدة وريم وسلوى. لقد أرادت المؤلفة، المولودة عام 1971، أن تتوحد مع بطلاتها في عام الميلاد، فهن مولودات في هذا التوقيت تقريباً. كما أنهن درسن معاً في كلية فنية، مثلما حصلت هي على بكالوريوس التصوير الزيتي في كلية الفنون الجميلة عام 1994.
هذا التطابق في الجنس والعمر والدراسة بين المؤلفة وبطلاتها الأربع، إضافة إلى العنوان الدال "بنات الملح"، مجرد إيحاء أولي بأن الرواية تقتحم عن قرب مناطق حميمة وشائكة في حياة هؤلاء النساء، وأن هذا الاقتحام سيكون تصويرياً ونافذاً وكاشفاً، لأنه بعيني رسامة تشكيلية ترسم بدورها رسامات تشكيليات. وفي هذا المجتمع البصري الاستبصاري الخاص، فإن صورة الشخصية ليست ملامحها الخارجية فقط بالتأكيد، لكنها في المقام الأول الأعماق والأغوار والأسرار الكامنة والمسكوت عنه أيضاً "تطير البنات معاً، يرقصن معاً، يطهون ويأكلن ما طهون معاً، لكن البريق يختلي بكل واحدة على حدة، والحزن أيضاً".
التصحر والارتباك
تحدد منال السيد مجالاً زمنياً يستقطب المحاور الأساسية لسرديتها الروائية، هذا المجال ينحصر بين اللقاء الجامعي الأول الذي جمع الطالبات الأربع عالية وفريدة وريم وسلوى في الكلية الفنية، وبلوغهن مشارف التصحر على عتبة الـ40 في نهاية الرواية، مروراً بحالات الارتباك المتنوعة المقترنة عادة بعقد التنشئة الأسرية الخاطئة، وتجارب الحب والزواج والانفصال، واستشعارهن اليأس تدريجاً بسبب ترهل الأجساد وشيخوخة الأرواح والتقدم في العمر وتسرب الطموحات والأحلام "لماذا نعود لأيام كانت البنات الأربع يجلسن بوداعة بنادي النقابة؟ لماذا نقارن الأيام؟ هل نبحث الآن عن بداية التصحر؟ دائماً صورتهن بالنادي تقابل صورتهن الآن، إذ ينمن في صحراوات أربع. الشمس واحدة فوقهن، شفاههن بيضاء، وألسنتهن مثل الخشب".
ظاهرياً فإن الرواية تبدو مكثفة، من حيث صفحاتها التي تتجاوز 100 بقليل، وشخصياتها المقننة (البطلات الأربع وعائلاتهن)، والأحداث المحدودة من حيث الكم، والمدى الزمني الذي تتحرك فيه، ولكن صاحبة المجموعات القصصية "الذي فوق" و"أحلى البنات تقريباً" و"درقة البلاد" ورواية "غنا المجاذيب" تمكنت من فتح روايتها "بنات الملح" على فضاءات زاخمة لامتناهية، وذلك من خلال المعالجة الدقيقة غير التقليدية، وإعادة صياغة مفهوم الحكاية من منظور أوسع وأعمق.
تفلسف منال السيد الحكاية ليس باعتبارها سلسلة من الأحداث المتنامية منطقياً والمتطورة درامياً على نحو طبيعي كما في الأبنية الروائية السائدة، وإنما باعتبار الحكاية أو الشذرة الحكائية أو الموقف العابر "محض تاريخ بين لونين". كل الحكايات هكذا، ولهذا السبب يكون لكل واحدة من البطلات "لون قديم، ربما زاه، وربما قاتم، ولون جديد، بعد أن أوشكن على نهاية عقدهن الثالث، فيما تنتظرهن لزوجة العقد الرابع، حيث انتهاء كل شيء".
انحراف عن المسار
في تتبعها جغرافيا الفتيات المتدهورة المتصدعة على مر السنوات، بين تاريخ الألوان الناصعة وتاريخ الألوان المنطفئة، تنحرف منال السيد عن المسار النمطي لرواية الشخصيات. هي لا تتحرك زمنياً في اتجاه واحد من الماضي إلى الحاضر مثلاً، ولا تفرد لكل شخصية فصلاً مستقلاً تسرد من خلاله الأحداث على لسانها قبل الانتقال إلى شخصية أخرى ساردة، ولا تتناول الحدث الواحد من وجهات نظر متباينة، وفق المألوف من تقنيات هذا النسق من الروايات.
تتحرك المؤلفة بخفة في قفزات سريعة متتالية بين الشخصيات والأزمنة والأمكنة والأحداث والمشاهد المبتورة والمواقف الجزئية والكادرات واللقطات الصغيرة، من دون اعتماد ترتيب ممنهج أو آلية معينة لهذه التنقلات والتنوعات اللاهثة. ويتحرك مؤشر الحكي من لسان شخصية لأخرى ربما في الصفحة الواحدة أحياناً أكثر من مرة، إضافة إلى وجود راو عليم خامس يتدخل في مواضع قليلة ليسرد عن الفتيات الأربع. وتتعدد الأمكنة في الجامعة وفي البيوت التي تسكنها الفتيات، قبل الزواج وبعده، وتتداخل الأزمنة بين الماضي البعيد (الطفولة) والماضي القريب (الجامعة) والحاضر (الزواج والطلاق) وربما المستقبل (الوحدة المطلقة) في فقرة قصيرة أو خلال بضع عبارات موجزة.
بهذه الطريقة ترمي المؤلفة دائماً أطراف خيوط الحكايات والمواقف والحوارات والمونولوجات الداخلية للشخصيات، تاركة للقارئ استكمال الأحداث وفهم العلاقات واستنتاج المسكوت عنه، فيتسع المشهد لما هو أبعد من حدوده بكثير. هي ترسم لوحات ترميزية تعتمد على الإشارات والإحالات والإسقاطات. عشرات اللحظات المتوترة تنقلها الكاميرا الملاصقة لبنات الملح في تأففهن الصامت، ووجعهن الصارخ وفقدهن وعطشهن ورغبتهن، وضجرهن من أنفسهن والآخرين والمجتمع بأسره.
لدغات الملوحة
تطارد المؤلفة قصة كل لدغة من لدغات الملوحة لدى كل بطلة من بطلاتها المأزومات المهزومات "بعد ترك الكلية، تلقين العالم بابتساماتهن، وتلقاهن بمجموعة مختلفة من الركلات". التفاصيل كلها وجوه ومرايا متنوعة للقهر والكبت والاشتياق والاغتراب والانسحاق والضياع وفقدان القدرة على الفعل. تقول عالية "لما أكون فوق الماء، أخاف من حرية جسدي كموجة. أخاف من الاتجاهات، من الشمال تحديداً. أخاف من الصحو، فلا أجد رملاً تحت قدمي ولا طيناً ولا صخوراً. أخاف من موجة لا ترحم وحدتي، منذ تركت للأشياء ترعاني وليس البشر".
ولا تتوقف محاولات كل واحدة منهن المقاومة والبحث عن خلاصها الفردي ونيل الحقوق وتعزيز الهوية، وإدراك الحرية "جرح ريم ليس في قصة بعينها، ربما هي الحرية، حرية أن ترسم وتطير". وقد تصيب البطلة أحياناً قدراً من النجاح النسبي، وقد يقودها الفشل إلى المرض النفسي وإيذاء الذات.
هذا المرض النفسي تكشف عنه سلوى في اعترافاتها "في حجرتي وحصني، أعري ذراعي ببطء. أكون قبلها سرقت الشفرة من أعلى رف بالحمام. بحرفية تعودت ذلك، أبدأ في تقطيع سطح جلدي. يمر النصل في مكانه كل مرة، فتهتز الروح قليلاً بما يشبه النشوة، والألم القادم من القلب والرأس. وأرى خط الدماء يبدأ رفيعاً مثل خط بالقلم الجاف الأحمر. خط رفيع، ثم تخرج الدماء وترسم خطوطاً ليست مستقيمة، أتابعها وأفكر في احتضاني لهذا السر الصغير".
والسبب الرئيس لما انتاب سلوى هو علاقتها المضطربة بأبيها، المناضل الماركسي المتزن، الراجح العقل أكثر مما ينبغي، الذي قضى في السجن أكثر من 15 عاماً، خرج بعدها بجهاز هضمي يعمل بالكاد وروح ساخرة. لقد نشأت سلوى محرومة من اللهو ومن الصرخات، سجنها الأب العاقل في لحاف الأفكار المنطقية، التي كان يلفها بها في عز الحر "كلما حاولت أن أبدو مثلما أريد، كان أبي يجلسني أمامه بمهابة، ويكلمني عن منطقية ما أفعل، ومدى تطابقه مع قواعد الفكر، حتى لو كان مجرد أن أصفق في الحمام عارية، أو أن أنفخ فقاعات الصابون. كيف أتخلص من احتلال هذا الرجل، ذلك الذي يترنم بالحرية ليل نهار، فيما هو أكبر ديكتاتور بالكون؟ حبس 100 ألف فكرة خاطئة بداخلي، كان من حقها أن تعيش".
الفشل المدمر
وقد يقود الفشل أيضاً إلى مرض ملحي آخر، هو توجيه الحقد والكراهية للآخرين. الفتاة فريدة، دفعها حظها التعس إلى الغيرة من صديقاتها الأجمل منها، اللاتي سبقنها في الزواج "نحن عائلة مصنوعة من الشوكولاتة، ألا تحبين الشوكولاتة؟ كانت هذه إجابة أمي حين سألتها: لماذا لنا هذا اللون يا أمي؟ أهز رأسي وأبتسم. لكن الدنيا خارج الشقة فيها أطعمة أخرى يا أمي. والقلب ينام داخل بيجامته الوردية ليلاً ويحن ليد تذيب الشكولاتة وتذيب الصمت والصبر. سأطرد البنات من شباكي حين أريد. الكراهية هواء يا أمي. الكراهية ملابس عفتي. الكراهية فوطتي الصحية وحمالات صدري. لا أملك ترف الكراهية المعلنة. حائط من النحاس يمنعني. يوماً سأحطم النحاس وأشرع كراهيتي".
أما تسلط الأم، فمن تداعياته المخيفة أيضاً الكوابيس التي سجنت بداخلها طويلاً الفتاة ريم، كاتمة سرها لتتذوق ملوحته وتكتوي بأحماضه وحدها "لمن أحكي السر؟ كانت أسوأ كوابيسي هي أمي في صورة أمي. لكنها هذه المرة امرأة جبينها مسود قليلاً، وعينها مفتوحة كجثة. تطاردني في البيت بخطوات الساحرات، كمن تمشي في الهواء، كمن تسير على عجلات لا أراها. تطير من المطبخ للصالة لسريري من دون أن يهتز جفناها أو يزول سواد الجبين. أختار ألا أنام، أذوب كلما سمعت دبيب العفاريت الأخرى بجوار السرير وأنتظر طلوع النهار كي آخذ أول نفس. الدجاج المشوي يجب أن يكون ملحه زائداً، نكويه بالملح والليمون وندفس البصل تحت الجلد. أحياناً نفكر في هزيمة الدجاجة تحت نصل إلى السكين!".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هكذا يغدو سيل نثارات الحكايات إيذاناً برسم الجوانيات وتحليل الانفعالات، والغوص الجريء تحت الجلد، وتفسير ما وراء العلاقات مع البشر، وما وراء العلاقات مع الأشياء اللصيقة بالشخصيات أيضاً، حين لا يبقى في البيت البارد كائن حي آخر.
عالية مثلاً، التي سقطت في اختبار الزواج فقط لأنها لم تتمكن من الإنجاب، تعترف بأنها امرأة "قتلها الرحم.. سمعت صوته فقط. منذ مجيء حيضها وهي تنتظر الولد، وحين جاءها الرجل الذي مر، كان رحمها هو من جعله يمر، فقط لأنه لم يكن ينجب. رحم سافل يقتل صاحبته، ويترك جثتها للهواء".
وحين تنتفي علاقاتها بالزوج الذي مضى، وبالصديقات اللاتي انصرفن عنها لشؤونهن الخاصة بعد صداقة طويلة، لا تجد عالية سوى الوحدة في بيتها الصغير "كرتونة القطة". وهنا تتولد هذه العلاقات البديلة، وما وراء العلاقات، مع الأشياء غير العاقلة، لعلها تكون أكثر إخلاصاً من البشر "عندي مناشف كثيرة، لكن هذه أقدمهم، وربما أزهاهم لوناً. كانت صاحبتي في بيت أبي، أخذتها معي عند الزواج. انزوت مكتئبة في دولابي فيما نسيتها تماماً، واستخدمت مناشف أخرى ذات ألوان صريحة. لما رأيتها بعد هذه الغيبة كانت منهارة تماماً، على وشك الجنون. مرت سنوات كثيرة، غاب لون المناشف جميعها، غسالتي الأتوماتيكية جعلت المناشف جميعاً لوناً واحداً. وظلت منشفتي العجوز على حالها ولونها الأول. الآن طبعاً لا أحد يعرف كيف يكلمها، ملأها الغرور، وصارت تتعالى على المناشف المسكينة".
إنها نزعة المؤلفة إلى الاشتغال على الرصد المتكرر لترددات اللون عبر الزمن، لإدراك ما الذي تتغير ملامحه وخواصه بالتعرض للملوحة، وما الذي لا يتبدل جوهره النقي على رغم عوامل التعرية، وعلى رغم قسوة الذكورة المحيطة "الرجال لا يحطمون النساء، فقط يهجرونهن، فيذبن مثل الشموع بهدوء وانتظام. والأحلام البسيطة جداً تصير نجوماً بالسماء. فلا يكون سوى العزلة، مصادقة الأشياء البسيطة، الاختباء داخل الغرف، الاختباء في مضغ الطعام".