تعبِّر إجازة الحكومة الانتقالية لحزمة التعديلات التي أجرتها على القانون الجنائي لعام 1991، عن طيّ فعلي لصفحة النظام السابق. فبعدما سقط بقيام ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018، كان لا بدّ من سياسة إصلاحية شاملة تبدأ بالقوانين المقيِّدة للحريات، كونها ظلّت محل جدل كبير قبل وبعد الثورة. وجاء إعلان وزير العدل السوداني نصر الدين عبد الباري لهذا التعديل مركّزاً على إلغاء بعض المواد وتعديل أخرى كاستحقاق إنساني أدخلت به الحكومة السابقة السودان في دهاليز حقوقية. في هذه الأجواء، استرجعت الذاكرة الشعبية بعض المشاهد التي تدلُّ على أنَّ هذه القوانين كانت مرتبطة بالأيديولوجيا الإسلامية المتَّخذة كنظام حكم، أسّس لها حسن الترابي قبل الإنقاذ في تحالفه القصير مع الرئيس الأسبق جعفر النميري في قيادته لجبهة الميثاق الإسلامي، وأصدرا قوانين سبتمبر (أيلول) 1983، وعلى النهج ذاته سارت الإنقاذ منذ بداياتها بتدبيج القانون الجنائي 1991.
حالة رقص
لم يكن غريباً في عهد حكومة الإنقاذ السابقة، خصوصاً في العشرية الأولى منه، مطالعة أخبار صحافية عن محاضر شرطة النظام العام، مثل هذا الخبر "داهمت شرطة النظام العام إحدى الصالات الشهيرة في الخرطوم وألقت القبض على المتهمين وهم في حالة رقص". وأصبحت "حالة رقص" هي المعادل الخبري لكلّ المستجدات التي تزوّد بها الشرطة الصحف وتُجبرها على نشرها، تحت التهديد الضمني للناشرين بالحرمان من إعلانات الجهاز ووزارة الداخلية إن لم يفعلوا.
هذه البلاغات كانت تُدوَّن تحت أشهر مادة في القانون الجنائي لسنة 1991 وهي المادة 152 باسم الأعمال الفاضحة والمخلّة بالآداب العامة، ونصُّها هو "مَن يأتِ في مكانٍ عام فعلاً أو سلوكاً مخلّاً بالآداب العامة أو يتزيا بزيٍّ فاضح أو مخلّ بالآداب العامة يسبّب مضايقة للشعور العام يُعاقَب بالجلد بما لا يتجاوز 40 جلدة أو بالغرامة أو بالعقوبتين معاً". ومعلوم أنَّ هذه المادة واسعة بحيث فشلت في تحديد ماهية هذا السلوك المخلّ بالآداب، مثلما فشلت تدوينات بلاغات الشرطة في الحالات المذكورة في تحديد معنى المجون وحدوده، بل تُرك تقدير ذلك لشرطة النظام العام. ووفقاً لذلك، كانت الشرطة تطارد الفتيات في الشوارع بسبب زيَّهن أو طريقة مشيتهن.
النظام العام
تمت صياغة هذا القانون ضمن القانون الجنائي لعام 1991 وهو الأول من نوعه في السودان بعد سنتين من بداية حكم الإنقاذ بكونه قانوناً واجب التصديق، من دون أن تصحبه مذكرة تفسيرية، مِمّا جعل تطبيقه مفتوحاً على أمزجة السلطة وأهوائها وتقديرات الشرطة.
وعن هذا القانون، قالت الدكتورة لمياء بدري، الأستاذة في جامعة الأحفاد للبنات والمتخصّصة في "علم الاجتماع والجندر" إنَّه "صُمّم خصّيصاً لقهر المرأة وكأنّما النساء وحدهنّ المسؤولات عن الفساد السلوكي في المجتمع، إذ تجاوز كل الحقوق التي اكتسبتها المرأة وتجاوز الدستور وكل الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان وحقوق المرأة التي وقَّع عليها السودان في مواده الـ26 الموزعة على سبعة فصول. إنَّ قانون النظام العام جاء موجّهاً بنظرة تجريمية إلى المرأة، فحدَّد المظهر العام وتجاهل كل البنود الأخرى المتعلّقة بالبيئة والسلوك العام للرجال في الطرقات".
تعديلات مُستحقّة
قال نصر الدين يوسف دفع الله، عضو الجبهة الديمقراطية للمحامين السودانيين لـ"اندبندنت عربية"، إن "ما حدث من تغييرات هي تعديلات مستحقّة وكان من المفترض أن تُجرى منذ قيام الثورة وبدء الفترة الانتقالية، إلَّا أنَّ تأخرها كان بسبب عدم تشكيل السلطة التشريعية، وعدم التمكُّن من تنفيذ مطالب ثورة ديسمبر بخصوص تحقيق السلام. وهي جاءت متّسقة مع شعارات الثورة في تصحيح البنية التشريعية حتى تتناسب مع النصوص الدستورية لاتفاقية السلام الشامل عام 2005 المعروفة بوثيقة الحقوق. آن الأوان لتنفيذ مقتضيات حقوق الإنسان الدولية والسودانية مع التحوّل الديمقراطي".
وأضاف "بعد اتفاقية السلام تم تقنين الوضع الجديد في الدستور باتّساق مع حقوق الإنسان، إلَّا أنَّ المحكمة الدستورية المناط بها تنفيذ مقتضيات الدستور، كانت تشطب الدعاوى المقدَّمة للفصل فيها بحكم أنَّها سلطة غير محايدة ولن تستطيع إدانة سلطة شرطة النظام العام".
هوس الردة
وعن إلغاء المادة 126، أوضح دفع الله "عُدّلت لأنها نابعة من وجهة نظر ضيّقة لحكومة الإنقاذ وهوس ديني، وهي تتعارض مع نصوص القرآن الكريم الذي ظلّت تتاجر به لهدف سياسي وهو ضرب خصومها السياسيين من أجل تكريس هذه القوانين، كما تعارض الدستور الذي يقرُّ بحرّية العقيدة، وهي ليس لها أي علاقة بالشريعة الإسلامية. وهذا الأمر ليس جديداً على التنظيم الإسلامي بقيادة حسن الترابي، فقد بدأ في عهد الرئيس الأسبق جعفر النميري وأعدم على إثره خصمه السياسي والأيديولوجي محمود محمد طه في 18 يناير (كانون الثاني) 1985".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي عهد الإنقاذ تكرّرت الاتهامات بالردة، أشهرها كان عام 2014 حين اتُهمت مريم يحيى في عمر 27 سنة بالردة وحُكم عليها بالإعدام شنقاً، وسُجنت المرأة الحامل في شهرها الثامن مع ابنها البالغ من العمر 20 شهراً، إيذاناً بتنفيذ الحكم، كما أصدر القاضي حكماً بجلدها 100 جلدة بتهمة الزنا بعد اعتبار زواجها من رجلٍ مسيحي غير صحيح وفق الشريعة الإسلامية. شاهد السودانيون المرأة في جلسات المحاكمة المصوّرة وهي تتحدث بهدوء شديد، إذ قالت "أنا مسيحية، ولم أرتدّ على الإطلاق".
وتدخّلت منظمة العفو الدولية، التي أوضحت أنَّ مريم رُبّيت كمسيحية أرثوذكسية، وهي ديانة والدتها، وأباها المسلم كان غائباً في فترة طفولتها. كما أصدرت الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا وهولندا بياناً مُشتركاً طالبت فيه حكومة السودان باحترام الحرّية الدينية والإفراج عنها فوراً.
خمور في النيل
من ضمن التعديلات، أُعلن في هذا القانون السماح لغير المسلمين بتناول الكحول، وسريعاً استخرج ناشطون سودانيون فيديو قديم يصوِّر الرئيس الأسبق جعفر النميري في موقف استعراضي يقترب مع حشد عسكري وجماهيري من ضفاف نهر النيل ويكسر أول قارورة خمر، فيتبعه الجميع في عملية تكسير القارورات وإلقائها في النيل، ثم تقوم مجموعة من العساكر بغسل آثار الخمر من على الضفاف بكميات كبيرة من المياه.
وفي المواد الخاصة بالكحول، أوضح دفع الله أن القانون يعاقب على شرب الخمر وبيعه وشرائه وتخزينه وتقديمه بالجلد والسجن بشكل مطلق، لكنه عدل "بما يتّسق مع حقوق غير المسلمين في الدولة التي تحوي مجتمعاً متعدِّد الأعراق والثقافات والأديان ولهم حقوق وبما يتماشى مع المواثيق الدولية".
سفر المرأة
هناك مواد في الدستور شابها بعض الغموض بما يقيّد حركة المرأة بالقانون، مثل المادة 23 التي كفلت لكل المواطنين السودانيين الحقّ في حرّية التنقل والحركة داخل البلاد وخارجها. واستفاد المشرّع في ظلّ الحكومة السابقة من ثغرة وضع منها تشريعاً خاصاً بسفر المرأة، سُمّي بقانون سفر المرأة، وهو ينصّ على عدم حقها بالسفر للخارج إلَّا بمرافقة محرم.
وعلَّق دفع الله على هذا القانون بالقول إن "الحكومة السابقة بأيديولوجيتها الإسلاموية وتطبيقها بقوة القانون، كرّست لفرض السيطرة السياسية وإذلال المواطنين بشكل عام والمرأة بشكل خاص. وكفل التغيير في القانون هذا الحقّ للمرأة، إذ بإمكانها السفر بأبنائها من دون انتظار موافقة الأب. وهذه بداية لتعديل مواد عّدة في قانون الأحوال الشخصية التي ستوفِّر للمواطنين العيش في سلام وأمان مجتمعي من دون قهرٍ سلطوي".
مادة فضفاضة
قال دفع الله إنَّ المادة 154 فضفاضة وكان لا بد من تعديلها، إذ كانت تنصّ على "يُعدُّ مرتكباً جريمة ممارسة الدعارة مَن يوجد في محلٍ للدعارة بحيث يحتمل أن يقوم بممارسة أفعال جنسية أو يكتسب من ممارستها ويُعاقَب بالجلد بما لا يتجاوز 100 جلدة أو بالسجن مدة لا تتجاوز 3 سنوات، ويقصد بمحل الدعارة أي مكان معدّ لاجتماع رجال أو نساء أو رجال ونساء، لا تقوم بينهم علاقات زوجية أو صلات قربى وفي ظروف يُرجَّح فيها حدوث ممارسات جنسية". وأضاف أن "العقاب الفوري في هذه المادة الذي تنفّذه شرطة النظام العام، غرضه إذلال المواطنين وتخويفهم واستهداف المرأة بشكلٍ خاص، إذ كان يُخوَّل لهذه القوات اقتحام أي مكان، وأنَّ التعديل الذي جاء على المادة لا يشمل التجمّعات بين الجنسين، بل اقتصر العقاب على الممارسة وليس شبهتها".
حملات مضادة
ظهرت تيارات مضادة لهذه التعديلات برفع شعارات الحكومة السابقة، ولكن يرى كثيرون أنَّ هذا القانون سيصمد نسبةً إلى وعي الشعب السوداني وإدراكه لطبيعة هذه التعديلات. وفي ذلك قال دفع الله إنَّ "الهجمة الحالية تجاه هذه التعديلات من أنصار النظام السابق والتيار الإسلامي تعتمد على فهمهم النقلي للنصوص الدينية، ولا يمكن ترجيح غير المتَّفق حولها على نصوص قطعية، ومَن يعارضون ليس لديهم منطق قوي ومُقنع". وختم أنَّ "أي رأي ينتمي للسلطة الديكتاتورية الاسلاموية العسكرية لن يصمد بعد التغيير الثوري، ويبقى التغيير متّفِقاً مع المنطق السياسي والاجتماعي لأنَّ مطالب الثورة شرعية ثورية تعمل عليها مؤسسات الفترة الانتقالية، وإرادة التعديلات الأخيرة في القانون جاءت بما يتّسق مع الوثيقة الدستورية".
اتصلت "اندبندنت عربية" بالقيادي في حزب المؤتمر الشعبي كمال عمر لاستجلاء رأي التيار الإسلامي بهذه التعديلات، إلَّا أنَّه استعصم بعدم الردّ على الأسئلة. ومعروفٌ عن عمر قوله إن "أفكار الترابي لا تحتاج إلى عبقريٍّ آخر لقول جديد فيها".