من غرائب ما أصاب القطاع المنجمي الموجه لاستغلال المواد النادرة في الجزائر إعلان المؤسسة الجزائرية لاستغلال مناجم الذهب إفلاسها قبل عامين بسبب شراكة غير مجدية مع طرف أسترالي على مستوى أحد أكبر مناجم الذهب جنوب البلاد. اليوم، تدفع الحكومة الجزائرية، وبكل قوة، نحو إحياء الصناعة المتصلة بـ"الثروات النادرة" أملاً في تخفيف العبء على قطاع المحروقات وتجاوز الصدمة التي أصابت هذا القطاع لعقد من الزمن.
يروي سكان محافظة تمنراست (1900 كيلومتر جنوب العاصمة) كثيراً من الأساطير حول منجمي الذهب "تيراك" و"امسماسا"، يعبر أغلبها عن ألمهم لما حدث سابقاً في محيط أحد أكبر مناجم الذهب في أفريقيا، وكيف انتهت تجربة الشراكة الجزائرية الأسترالية إلى إفلاس الطرف المحلي ممثلاً في المؤسسة الجزائرية لاستغلال مناجم الذهب، من دون أن يعود هذا الاستثمار بأي فائدة على سكان المحافظة.
كان حديث سكان المحافظة أشبه بفصول قصة "علي بابا واللصوص الأربعون"، لكنه في النهاية ظل مجرد حديث إلى غاية انهيار منظومة الحكم، وبروز حقائق كثيرة عن فساد وسرقات طالت باطن الأرض في الجزائر.
ومنذ رفع الجزائر تحفظات ضد أداء المناجم قبل سنتين من الآن، لم يُسمع أي جديد عن استغلال البلاد لمواردها الباطنية خارج قطاع النفط والغاز، لكن قراراً حديثاً صدر عن رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، أقر استراتيجية لاستغلال "المواد النادرة"، وأرفقه بخيار سياسي على مستوى الحكومة أفضى إلى فصل قطاع الصناعة عن قطاع المناجم ومنح الأخير كامل الصلاحيات.
10 سنوات من الفراغ
تفاجأت حكومة عبد العزيز جراد بأرقام استغلال مادة الذهب في البلاد، بعد اكتشافها أن الاحتياطي العام ظل ثابتاً في مكانه فترة عقد من الزمن (2009 إلى 2019)، كما تراجع حجم الإنتاج السنوي من طن عام 2009 إلى 286 كيلوغراماً السنة الماضية.
ويقول أستاذ الاقتصاد عبد الحميد وشنان لـ"اندبندنت عربية" عن هذا الواقع، قائلاً "في الحقيقة لم تملك الجزائر صناعة منجمية متكاملة، ولا أحد يملك المعطيات الدقيقة عن صناعة المواد النادرة، خصوصاً الذهب".
ويضيف وشنان "تغيب الأرقام الدقيقة عن إنتاج الذهب مثلاً، ولا معلومات عن جدوى الشراكة مع الأستراليين وأسباب توقفها. الحكومة تحججت بقيام الشريك الأجنبي بأبحاث سطحية لم تثمر الكثير، إلا أن شكوكاً تسود حول فساد طال هذا القطاع، فبيعت منتجاته في السوق السوداء. لو أن القطاع استغل بشكل جيد لاستثمرت الجزائر نحو 10 مليارات دولار سنوياً".
خطة الرئيس تبون تستهدف التحضير لإطلاق مشاريع استغلال للثروات الطبيعية والمعدنية التي تزخر بها البلاد، ولم تُستغل إلى حد الآن بالشكل المطلوب. ففي تصريح مقتضب له قبل شهرين، قال رئيس الجزائر "بلادنا تزخر بثروات هائلة غير مستغلة مثل المعادن النادرة التي تحتل الجزائر فيها المرتبة الثالثة عالمياً". وتابع "أعطيت أمراً لوزارة الصناعة بالقيام بإحصاء دقيق لهذه الثروات، وإعداد دفتر أعباء مع بنوك أعمال قصد الشروع في استغلالها".
واعتبر تبون أنه من غير المعقول ألا "تستغل الجزائر هذه الثروات وألا تترك الغير يستغلها، وإذا تطلب الأمر التشارك مع دول صديقة في هذه المشاريع سنقوم بذلك".
لكن السؤال الذي يبدو في منطق الخبراء وجيهاً، هل تملك الجزائر معطيات عما تملكه من موارد غير مستغلة؟ يقول وشنان "بالطبع لا، الخرائط الموجودة على مستوى وزارة الصناعة والمناجم قبل فصلهما قديمة وأنجزت بوسائل تقليدية. لكن خلق نشاط اقتصادي حول هذه المواد يحتاج إلى بداية من الصفر ولا مفر من الشريك الأجنبي، ذلك أن خبرة الجزائر في هذا المجال تكاد تكون منعدمة، خصوصاً خارج قطاع الحديد والفوسفات وبعض المواد التقليدية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الخرائط وشبكة النقل
تجسيداً لتوجيهات تبون تم الترخيص بالشروع في استغلال منجم "غار جبيلات" للحديد في محافظة تندوف أقصى جنوب غربي الجزائر، ومنجم "واد أمزور" للزنك بمحافظة بجاية، فيما أعلن وزير المناجم محمد عرقاب، الأربعاء، أن "الحكومة ستباشر المرحلة الأولى عبر الاستغلال الحرفي للمناجم في قطاع الذهب مثلما فعلت جنوب أفريقيا وأستراليا، بالاعتماد على تعاونيات شبابية من المنطقة".
ورداً على هذا الطرح، قال البرلماني وعضو اللجنة الاقتصادية هواري تيغرسي "تصريحات الوزير أشبه بطريقة التسيير العشوائية، نقول للسيد الوزير إن الذي تتحدث عنه هو ملك عمومي ولا يجوز لك أو لغيرك توزيع الريع بهذه الطريقة. كنا نوده مشروعاً استثمارياً حكومياً في القطاع لتوفير مناصب عاملة وكذا الشراكة مع القطاع الخاص أو المؤسسات الصغيرة. أما بهذه الطريقة وإلغاء الدولة وفرض قانون الغاب فهذا غير مقبول والشعب الجزائري لن يقبله منك أو من غيرك".
ليس هذا فحسب ما يعرقل نوايا الحكومة، فتوسيع هذا النشاط لمواد أخرى يصطدم بغياب قاعدة لوجستية واسعة بحسب خبراء. ويعدّد الأستاذ والخبير الطاقوي بوزيان مهماه نحو عشرة شروط على الأقل وجب أن تتحقق قبل استغلال "المواد النادرة"، فيجب وفقه "تحيين الخرائط المنجمية، خفض كلفة إنتاج الطن الواحد، توفير النقل إلى هذه المناجم الهامة، إطلاق نشاط إنتاج وتصنيع مواد مصنعة ونصف مصنعة وتفادي بيعها كخامات".
ويضيف "وجب أيضاً توفير الطاقة اللازمة للنشاط الاستخراجي، توفر المياه، توافر الكفاءات والخبرات واليد العاملة المؤهلة، تحيين قانون المناجم الذي أثبت عدم جدواه في جلب استثمارات أجنبية واعدة، إحداث التوازن بين جلب الاستثمارات الأجنبية وإشكالية إدماج المحتوى المحلي من شركات ومؤسسات ومكاتب"، وأخيراً "الالتزام بمتطلبات الحفاظ على البيئة وإعادة هيكلة قطاع المناجم والأدوات الفاعلة فيه".
هل يتحقق الحلم الألماني؟
ليست وزارة المناجم الوحيدة التي استقلت بذاتها في آخر تعديل حكومي أقره تبون، فقد استقل قطاع الطاقات المتجددة بعيداً من قطاع البيئة، بقيادة وزير التعليم العالي سابقاً شمس الدين شيتور، فما الهدف؟
منذ عقود طويلة لم تتمكن الجزائر من الوصول إلى اتفاق نهائي مع ألمانيا لإنجاز ما يعتقد أنه أكبر مساحة لإنتاج الطاقة الشمسية عالمياً. بيد أن فصول التواصل بين الدولتين عادت إلى سابق عهدها بداية من نيسان (أبريل) الماضي، أملاً في تحقيق مشروع الطاقة الشمسية "ديزارتيك"، الذي يصبو إلى تأسيس شبكة ضخمة من محطات توليد الطاقة الشمسية في شمال أفريقيا والشرق الأوسط لتزويد أوروبا بنحو 20 في المئة من حاجاتها من الكهرباء على أن يتم نقل الكهرباء إليها عبر شبكات كهرباء الضغط العالي العادية.
وأعادت حكومة الوزير الأول عبد العزيز جراد، بعث المشروع الذي أفشلته وزارات سابقة في فترة الرئيس السابق، عبد العزيز بوتفليقة. إذ أعلن وزير الطاقة السابق يوسف يوسفي (موجود بالسجن) في آخر تصريحاته حول المشروع أن "لا فائدة من استكمال هذا المشروع في ظلّ وجود فائض في الطاقة الكهربائية في معظم بلدان أوروبا"، مع العلم أن هذا المشروع رافقته دائماً روايات عن صراع ألماني - فرنسي من أجل الظفر به، بالتوازي مع صراع آخر إقليمي بين الجزائر والمغرب بشأنه.