مضى أسبوعان وأكثر على وعد رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك للثوار في الـ29 من يونيو (حزيران) الماضي، باتخاذ قرارات مهمة، وحتى الآن لم نرَ شيئاً من تلك الوعود، سوى استقالة سبعة وزراء، وتغيير مدير عام شرطة السودان ونائبه.
صحيحٌ، يوجد تقدُّم جزئي في ملف السلام، واقتراب وشيك للتوقيع، وهذا مهمٌ بطبيعة الحال، لكن أيضاً من الأهمية بمكان تعزيز حكومة الثورة في الولايات، بتنصيب الولاة المدنيين والشروع في تكوين المجلس التشريعي (البرلمان)، استكمالاً لهياكل السلطة، التي لا يمكن أن تستتب الأمور في الولايات إلا عبرها.
وحسب مصادر صحافية وإخبارية فقد جرى حسم اختيار 13 والياً، بينما يتبقّى بعض الولايات التي شهدت أحداثاً أمنية، مثل كسلا، والبحر الأحمر، وغيرهما.
الأنباء الواردة بخصوص اختيار واليّي كسلا والبحر الأحمر لا تزال يكتنفها الغموض. فبعد تسريبات عن احتمال تولية العميد معاش كمال إسماعيل، رئيس حزب التحالف الوطني السوداني، ولاية كسلا، أصدر الناطق الرسمي باسم الحكومة وزير الإعلام فيصل محمد صالح بياناً جاء فيه: "أدّت الظروف الأمنية والنزاعات القبلية الحادة في بعض الولايات إلى تعقيد أمر اختيار الوالي، وجعلت المشاورات تتجه نحو خيارات جديدة، كما يواجه اختيار بعض الولاة من النساء صعوبةً شديدةً ومقاومةً من بعض الولايات والقوى السياسية. ورغم هذا، يحرص رئيس الوزراء على عدم فرض رغبة المركز على الولايات، وعلى تعيين ولاة مقبولين من المكونات المختلفة في الولايات".
تبدو فحوى هذا الاقتباس من بيان الناطق الرسمي للحكومة السودانية، وزير الإعلام فيصل محمد صالح، كما لو أنّ فيه ميلاً إلى صرف النظر عن اختيار ولاة من المركز، أيّ من غير أهل الولايات التي لم تُحسم بعدُ. وهذا ما أدّى إلى تعويم تسريبات عن ترشيح مرشح الحرية والتغيير في البحر الأحمر عبد الله شنقراي خلال الأيام الماضية.
لكن، مَنْ يتأمل بيان الناطق الرسمي باسم الحكومة، يلحظ إرباكاً واضحاً حيال صياغة المعنى الذي يُراد تمريره من البيان. فما يرشّح من تسريبات اليوم يدل على إمكانية تأجيل تعيين الولاة عدة أسابيع، وهو أمر سيسمح لقوى الثورة المضادة بافتعال حوادث أمنية، لا سمح الله، في الولايات الثلاث لشرق السودان، أي إعادة محتملة لتدوير الأزمة، التي هي أصلاً نتيجة لغياب تعيين الولاة الجدد. ما سيعيد حظوظ التوجّه إلى خيار إعادة التفكير بتعيين ولاة عسكريين أو مدنيين ذوي خلفية عسكرية مرة أخرى في أوساط دوائر مستشاري حمدوك.
مع الأسف، يبدو أن بعض قوى الحرية والتغيير في المركز تلعب دوراً ضاراً بمصائر ولايات شرق السودان وتوظفها ضمن تسويات سياسوية خاصة، بصراع الكتل في المركز، من أجل تمرير قوائم غير متفق عليها في معايير اختيار الولاة.
وفي هذا الإطار يمكننا فهم ما أشيع أخيراً من تسريبات حول احتمال تعيين العميد كمال إسماعيل، كهدف أراد به مستشارو حمدوك (عبر قناعة مررها في أوساطهم شخصٌ بارزٌ في قيادة حزب المؤتمر السوداني)، خلط الأوراق مرة أخرى.
ومن المعلوم أن اختيار مرشح الحرية والتغيير لولاية كسلا صالح عمار كان محل إجماع، ليس فقط بين قوى الحرية والتغيير في الولاية والمركز فحسب، بل كذلك بين غالبية المكونات الأهلية والاجتماعية لشرق السودان. عبر أبرز مكوناتهم، إذ لم يكن هناك اعتراض يذكر على عمار من قِبل المكونات الأهلية النافذة في الشرق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذا يعني أن خلط الأوراق الجديد الذي أدخله مستشارو حمدوك حيال إعاقة مسار تعيين مسار عمار والياً لكسلا، سيؤدي إلى احتمال إحداث خلل في صيغة الإجماع السابق لموقف بعض المكونات الأهلية (لا السياسية) التي أجمعت عليه من قبل والياً لكسلا. ومن ثمّ عودة الاستثمار في أدوار بعض العنصريين والانعزاليين بشرق السودان، الذين يستهدفون المكوّن الأهلي الذي ينتمي إليه عمار بحجج، الهدف منها إقصاء ذلك المكوّن من مناصب السيادة والسلطة في شرق السودان.
وهذه اللعبة خطرة، تخوض فيها بعض أحزاب المركز، مثل بعض قيادات حزب المؤتمر السوداني، وحزب الأمة، من دون أن يعلموا أن خطورتها سترتد بما لا يُحمد عقباه في شرق السودان.
لقد لاحظ الجميع الدعوة إلى الاعتصامات التي دشّنتها بعض أحزاب شرق السودان والمكوّنات الثورية في مدن الشرق في حال عدم اختيار صالح عمار (مرشح قوى الحرية والتغيير). وربما كانت هذه الاعتراضات السياسية والجماهيرية ببعض مدن شرق السودان في خلفية صدور بيان الناطق الرسمي للحكومة.
ما لا يعلمه كثيرون في المركز، أن هناك احتقاناً كبيراً لمكوّن أهلي معروف بشرق السودان قد ينجم عن إهمال خياراته في والي الحرية والتغيير لكسلا (صالح عمار)، لا سيما إذا ما جرى تثبيت اختيار مرشح الحرية والتغيير في البحر الأحمر (عبد الله شنقراي) والياً للبحر الأحمر، ردود فعل لا تُحمد عقباها في شرق السودان.
بطبيعة الحال، سيكون من الحكمة لرئيس الوزراء عبد الله حمدوك اختيار مرشحي الحرية والتغيير لكل من ولايتي البحر الأحمر وكسلا (صالح عمار، وعبد الله شنقراي)، كأولوية أولى من أولوياته، أو تعيين واليين مدنيين بخلفية عسكرية في الولايتين من بين المكوّنين اللذين ينتمي إليهما كل من عمار وشنقراي. ولحمدوك أن يعين واليين مدنيين ذوَيْ خلفية عسكرية من خارج هذين المكونين اللذين ينتمي إليهما عمار وشنقراي، وإنْ كنا لا نقترح هذا الخيار بالضرورة.
خطورة الاحتقان الذي يسعى إليه عنصريو شرق السودان ودعاة الفتنة فيه، ينحصر في الإيحاء للمركز بأن المكوّن الذي ينتمي إليه صالح عمار ليس أصيلاً في شرق السودان، ويبدو أن بعض أحزاب المركز ابتلعت طُعم العنصريين من دون أن تكون لها خلفية كافية عن هُوية مكونات البجا بشرق السودان.
وغنيٌّ عن القول إنّ فهماً مضللاً كهذا الفهم لا يعود إلا بالضرر الجسيم على النسيج الاجتماعي لشرق السودان. فأحزاب المركز التي تلعب على هذا الوتر المعطوب الذي يعزفه لها عنصريو شرق السودان، من أجل مكاسب سياسوية لا نحتاج إلى تذكيرها بالمبادئ العظيمة لثورة الـ19 من ديسمبر (كانون الأول) 2018، التي قامت على الحرية والعدالة والسلام، وأن المواطنة في هذا البلد المسمّى السودان تجعل حق المواطن في مدينة قرورة (آخر نقطة حدودية شرق السودان)، التي يتناساها عنصريو شرق السودان، هو تماماً كحق المواطن في الخرطوم، بعد هذه الثورة العظيمة.