كما جرت العادة، ومنذ اتفاق وقف إطلاق النار عام 1994 لم تتوقف الاشتباكات قط بين أذربيجان وأرمينيا، فكل سنوات عدة هناك جولة جديدة منها، وسط اتهامات متبادلة من الطرفين بالمسؤولية، إلا أن هذه المرة كانت الاشتباكات بمنطقة توفوز النائية في أذربيجان، والمناوشات بين البلدين عادة ما تقع في منطقة ناغورني كاراباخ المتنازع عليها.
تقع منطقة توفوز بالقرب من خط أنابيب "باكو، تيبليسي، جيهان" في أذربيجان، الذي ينقل الغاز الطبيعي إلى خط أنابيب تاناب في تركيا، وقبل فترة ليست بعيدة، هددت الولايات المتحدة بفرض عقوبات على خط أنابيب السيل التركي الذي افتتحه في يناير (كانون الثاني) الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيره الروسي فلاديمير بوتين.
لا يمكن النظر إلى تجدد المواجهات في جنوب القوقاز، بعيداً عن إطار إقليمي دولي تعيشه منطقة الشرق الأوسط الكبير؛ "الشرق الأوسط، آسيا الوسطى، القوقاز"، والتصعيد المفاجئ يثير الكثير من التساؤلات، إذا أخذنا في الاعتبار التحالفات المعقدة لكل من باكو ويريفان مع دول المنطقة، التي تشهد أكثر من نزاع، له امتدادات محلية وإقليمية ودولية.
أزمة متجددة
صحيح أن الأزمة بين أذربيجان وأرمينيا ليست جديدة، إلا أنها تتجدد باستمرار، وسياق التوتر اليوم غير واضح، في ظل تبادل الاتهامات بشأن إشعال فتيل الاشتباك الأخير، فقد يكون في إطار تبادل الرسائل، لا سيما أن الأطراف ذات الصلة، تشتبك في أكثر من ملف ابتداء من القوقاز، مروراً بأوكرانيا وسوريا، ولا تنتهي في ليبيا.
تعي موسكو أن يريفان بحاجة إلى روسيا، أكثر من حاجة روسيا إلى أرمينيا، لكن فقدانها يعني فقدان حديقة من حدائقها الخلفية في الفناء السوفياتي السابق، وهو ما قد يؤثر على المدى البعيد في نفوذها وقدرتها على المناورة، وفرض رأيها كقوة دولية في الساحة العالمية عموماً، والسوفياتية السابقة خصوصاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تعدّ أرمينيا بالنسبة إلى موسكو حليفاً اقتصادياً واستراتيجياً مهماً، ويبلغ حجم الاستثمارات أربعة بلايين دولار؛ أي ما يقارب 40 في المئة من حجم الاستثمارات الأجنبية في أرمينيا، وتسيطر روسيا على العديد من المؤسسات ذات الأهمية الحيوية في البلاد، بالإضافة إلى وجود القاعدة العسكرية الروسية في يريفان، إلا أنه بحسب بعض المراقبين مع وصول نيكول باشينيان إلى رئاسة الحكومة بعد تزعمه حركة احتجاجات أطاحت رئيس الوزراء سيرج سركسيان "الرئيس السابق"، بدأت يريفان محاولات لإقامة توازن في العلاقات بين الغرب وروسيا، وهذا الأمر يصب في صالح باكو.
والواضح أن التحرك نحو صيغ حل يرضي الطرفين الأذري والأرميني، يمكن أن يصب في مصلحة روسيا أيضاً، فهي بحاجة إلى أرمينيا كحليف تقليدي، وكذلك إلى أذربيجان كبلد يحتل موقعاً جغرافياً سياسياً مهماً.
العلاقات الإيرانية الأرمينية
وتدعم إيران أرمينيا، لأسباب اقتصادية، أبرزها حاجة يريفان للطاقة، كما أن إضعاف أذربيجان حاجة إيرانية، حتى لا تشجع الأقلية الأذرية في إيران على المطالبة بالمزيد من الحقوق، والواقع يشير إلى أن علاقات إيران بأرمينيا تعدّ أقوى من تلك التي تربطها بكثير من الدول الإسلامية المجاورة.
وتشعر كل من تركيا وأذربيجان بالقلق من الشراكة (الأرمينية – الإيرانية)، ومصالح أنقرة وباكو في مجال الطاقة تضع كل منهما على النقيض مع إيران.
وتقف تركيا مع أذربيجان لأسباب تاريخية ودينية وعرقية واقتصادية، وتعلن أنقرة موقفها بوضوح، بوقوفها الكامل إلى جانب "شقيقتها" أذربيجان، لاستعادة "أراضيها المحتلة" على عكس بقية الأطراف التي تعلن حيادها في هذا النزاع، بينما تدعم هذا الطرف أو ذاك، من تحت الطاولة.
وتشهد الجمهوريتان؛ أذربيجان وأرمينيا، نزاعاً منذ القرن الماضي، حول إقليم "ناغورني كاراباخ" وهو جيب أذربيجاني، تقطنه أغلبية أرمينية، لكن المواجهات الأخيرة وقعت على بعد 300 كيلو متر من ذلك الجيب الجبلي.
في عام 1993 وبعد خمس سنوات من الحرب، سيطر الأرمن على "منطقة آمنة" داخل أذربيجان، تقع بين ناغورني كاراباخ وأرمينيا، وتبلغ مساحتها نحو 8 آلاف كيلومتر مربع؛ أي نحو 20 في المئة من مساحة أذربيجان.
وقف إطلاق النار
وتم التوصل إلى وقف لإطلاق النار في مايو (أيار) عام 1994، بعد انتصار الطرف الأرميني. إلا أنه لم يتم التوصل إلى اتفاق سلام إلى اليوم بين البلدين، ويتعرض وقف إطلاق النار باستمرار للخرق، على الرغم من المفاوضات التي جرت تحت إشراف "مجموعة مينسك" التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا (روسيا والولايات المتحدة وفرنسا)، فإن باكو ويريفان لم تتوصلا إلى اتفاق حول الوضع الذي ستكون عليه منطقة ناغورني كاراباخ.
ويقدر عدد سكان ناغورني كاراباخ بـ145 ألف نسمة، ويقع الإقليم غرب العاصمة الأذرية باكو بنحو 270 كم، وتبلغ مساحته نحو 4800 كيلو متر مربع.
وقامت هذه الدولة، التي لم يعترف بها أحد، خلال حرب قاسية امتدت أكثر من أربعة أعوام بين أذربيحان وأرمينيا، وأدت إلى سقوط أكثر من 30 ألف قتيل، ونزوح مئات الآلاف غالبيتهم من الأذر، وسيطرة الأرمن الذين يشكلون غالبية في الإقليم، على أراضيه، بالإضافة إلى ستة أقاليم أذرية أخرى، وباتت مشكلة كاراباخ، الشغل الشاغل لأرمينيا وأذربيجان، فأي حدث سياسي داخلي فيهما له صلة بالصراع على هذه المنطقة.
وترى بعض المصادر المطلعة، إمكانية حل الأزمة بتدخل قوات دولية على رأسها القوات الروسية إلى مناطق أذرية تحتلها أرمينيا يتم "تحريرها"، حيث يمكن أن تشكل منطقة عازلة بين الطرفين الأرميني والأذري، بعد ذلك يمكن بحث تسوية سياسية ما، لوضع إقليم ناغورني كاراباخ، بينما يحصل اللاجئون الأذريون على تعويضات مادية من المؤسسات الدولية، وهنا تجدر الإشارة إلى أن أرمينيا ترى خطراً على أمنها في حال عودة اللاجئين الأذر، كما أن أي مبادرة للحل لا تراعي خصوصية علاقة أذربيجان بتركيا سيكون مصيرها الفشل.