طوال سنوات الأربعين والخمسين من القرن العشرين، كان المؤرخ الإنجليزي أرنولد توينبي يُعتبر من كبار المؤرخين في العالم. وكتابه الضخم والعمدة "دراسة في التاريخ" كان يعتبر بأجزائه الاثني عشر، واحداً من أبرز نتاجات القرن العشرين في تاريخ الحضارة الكونية. غير أنه ما إن أطلّت سنوات الستين حتى راح توينبي يفقد حظوته بالتدريج ليبدو اليوم نسياً منسيّاً. وبات يُعتبر مؤرخاً يمينيّاً محافظاً، بحسب رأي الفرنسية سيمون دي بوفار، التي شنّت عليه هجوماً كبيراً في كتابها "واقع الفكر اليميني". ومن اللافت أن يكون هذا الهجوم قد تزامن من ناحية مع تنديد الأوساط الأكاديمية اليهودية باعتباره اليهود مجرد أحفورات تاريخية في خاتمة كتابه الذي نشير إليه، ومن ناحية ثانية بتنديده هو نفسه بـ"العدوان الثلاثي" الذي شنّه الإنجليز والفرنسيون والإسرائيليون على مصر عام 1956.
وقد يكون مفيداً أن نقرأ هنا ما كتب في مصر في ذلك الحين عن توينبي، لندرك ما الذي حدث حقاً: "... وشنّ المؤرّخ العظيم حملة صادقة على العدوان الأثيم. ووجّه لوماً شديداً إلى حكومة بلاده لاشتراكها في مؤامرة دنيئة ضد بلد أسدى أعظم ما تعتزّ به الحضارة الإنسانية من مُثل عليا وأمجاد رائعة، ولا ذنبَ له إلا رغبته في العمل على مسايرة ركب الحضارة العصريةِ وحلّ مشكلات الفقر والجهل والمرضِ".
تواطؤ مع الحكومة البريطانية!
وطبعاً، كان هذا "المؤرخ العظيم" الذي تتحدث عنه هذه العبارات هو أرنولد توينبي، الذي إلى كونه واحداً من المؤرخين الكبار في القرن العشرين، كان طوال الخمسينيات والستينيات محطّ إعجاب واحترام الرأي العام العربي، ليس انطلاقاً من كونه مؤرخاً، بل لأنه عرف في كل المناسبات كيف يعبر عن تعاطف مع القضايا العربية. ولقد أتى هذا الكلام، كما أشرنا، في وقت كان فيه توينبي محطّ هجومات صارخة من قبل "الفكر التقدمي" في بريطانيا وفرنسا تتهمه حيناً بالمثالية وحيناً بالرجعية، وأحياناً بالتواطؤ الرسمي مع الحكومة البريطانية التي كان يعمل، على أي حال، لحسابها في مجال اختصاصه.
بيد أن هذه الخلفيات كلها لا تخفي مكانة أرنولد توينبي الحقيقية، إذ إننا اليوم بعد رحيل الرجل بنحوٍ من نصف قرن (1975)، بإمكاننا أن ننظر إليه نظرة موضوعيةً لنكتشف توينبي الحقيقيّ خلف هجمات معارضيه، وتقريظات مناصريه (العرب خصوصاً). وهذه النظرة يمكن أن تستند إلى ذلك الكتاب الضخم الذي شكّل في زمن صدوره (على دفعات بين 1934 و1961) عملاً مرجعياً أشاد به كبار المؤرخين في شتى اللغات وصدرت له مختصرات عديدة تحاول أن تكثف 12 مجلداً تضم أكثر من ثلاثة ملايين كلمة وأكثر من أربعمئة صفحة من الهوامش، ليتناول تاريخ البشرية منذ أزمانها الأولى وصولاً إلى زمننا المعاصر. ولكن ليس كتاريخ أمم وأقوام متناحرة مع بعضها بعضاً ومتكوّنة في معزل عن بعضها بعضاً، كما تفعل عادة التواريخ الأكثر رجعية أو انغلاقاً، وأيضاً ليس طبعاً على نمط مدرسة الحوليّات وتاريخ "ما أهمله التاريخ"، كما يطالعنا في أكثر المناهج التاريخية تقدماً وحداثة، بل التاريخ بالمعنى التقليدي للكلمة إنما بنظرة إنسانية شاملة تنطلق من مفهوم "التحدي والاستجابة" الذي تبناه توينبي باكراً وسار ضمن خطه، ليس في كتاباته التاريخية فحسب بل في كل ما كتبه بما في ذلك نصوصه الأكثر تسيّساً.
نظرة تقليدية شاملة
والحال أن بحسبنا هنا في هذه العجالة أن نستعرض عناوين الأجزاء التي يتألف منها هذا السِفر لندركَ القيمة المنسيّة اليوم لهذا العمل: فبعد مقدمة حددَ فيها بنية كتابه وغايته من وضعه، يرسم المؤلف خطة ما سماه "تكوّن الحضارات" متبعاً ذلك بوقفة طويلة وتفصيلية عند "نموّ الحضارات" قبل أن ينصرف إلى "انهيار الحضارات وتفككها" عازياً ذلك إلى جملة من عناصر موضوعية وذاتية وعدد كبير من العوامل الخارجة عن إرادة البشر، كالعوامل الطبيعية والأوبئة مثلاً. وبعد أن يرسم لهذا كله صورة دقيقة متواصلةً عبر الأزمنة يصل إلى ما يسميه الدول الكونية والكنائس الكونية- والكنائسُ بالنسبة إليه لا تقتصر هنا على تلك المسيحية بل على التوزعات الدينية جميعها بالانطلاق من فاعلياتها السياسية والتاريخية. وهذا ما يوصله إلى ما يسميه "الأزمان البطولية" التي سيفيدنا لاحقاً بأنها كانت هي ما شهد اتصال الحضارات في ما بينها في المكان ثم في الزمان. ما ينقلنا إلى الدور الذي ستلعبه الحريّة والقانون في التاريخ، وبالتالي إلى التساؤل عن آفاق استمرارية حضارة غربيةٍ تكون مستقلة عن ذلك السياق الأمميّ.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
طبعاً، اكتفينا هنا بالعناوين والتعليق الموجز عليها لأن توسعاً منطقياً في البحث ولو في ملخصّات الكتاب سيحتاج إلى أَضعاف هذه المساحة، أما خلاصة كلامنا هنا، فهي أن توينبي كان واحداً من أبرز فلاسفة التاريخ في القرن العشرين، فيلسوفاً تقول لنا قراءة كتابه الضخم هذا، كيف أنه قد رسم للتاريخ فلسفةً تقوم على أساس مبدأ التطور الدائريِ وانحلال الحضارات. وهي فلــسفة أثارت زوبعة من السجال من حولها، ولا تزال.
والحقيقة أن توينبي عرف كيف يثير السجال في كل ما كتبه. ولعل دراسته في سنواته الأولى في "المدرسة البريطانية" في أثينا، بعد تخرجه من جامعة أكسفورد، كانت هي ما حدّد نظرته إلى انهيار الحضارات، من خلال اطّلاعه على تفاصيل ما حلّ باليونان الإغريقية.
حياة في قلب التاريخ
في 1912 وكان في الثالثة والعشرين من عمره أضحى توينبي استاذاً مساعداً للتاريخ القديم في أكسفورد. وبعد ذلك بثلاثة أعوام انضمّ إلى جهاز الاستخبارات التابع لوزارة الخارجية البريطانية، وهو بتلك الصفة شارك في مؤتمر باريس للسلام في العام 1919. وبعد ذلك تقلّب توينبي في أعمال عدة حيث رأيناه مرة أستاذاً جامعياً، ثم مراسلاً صحافياً خلال الحرب التركية- اليونانية، وكانت تلك الحرب هي التي إوحت إليه بوضع واحد من أوائل كتبه "المسألة الغربية في اليونان وتركيا" (1922). أما كتابه الأكبر "دراسة في التاريخ" فقد قرّر كتابته في العام 1921، ثم بدأ يعمل عليه في العامين 1927- 1928، أما نشرُ أجزائه الاثني عشر فتمّ بين العامين 1934 و1961. ولقد تقطّع العمل في ذلك الكتاب بسبب تقلّب توينبي في العديد من المهام والمهن. لكن مؤرخنا لم يقصر عمله طوال تلك الفترة على سفره الضخم بل راح يكتب، كتباً ودراسات طاولت العديد من المواضيع من تواريخ الأديان إلى الحضارة الغربية إلى كتب الرحلات.
انهيار حتمي
تقوم فلسفة توينبي التاريخية على مبدأي "التحدّي والاستجابة" من ناحية، و"الانهيار الحتميّ" للحضارات من ناحية ثانية، في حركة دائريةٍ لا بدّ منها. وفي هذا الإطار، كان من الطبيعيّ لنظرة توينبي إلى التاريخ أن تتأسس على التعامل معه على أنه مسارٌ لتاريخ وحداتٍ حضاريّةٍ، أكثرَ منه مساراً لتواريخ الأمم والشعوب. فالأمم والشعوب لا تخلق ولا تنهار بالنسبة إليه، ما ينهار هو الحضارات التي يجمل توينبي طبيعة انهيارها في ثلاث نقاط: قصورُ الطاقة الابداعيةِ في أقليّة المجتمع- عزوفُ أغلبية المجتمع عن محاكاة أقليّته- تفكّك وحدة المجتمعِ الاجتماعيةِ (بحسب تحليل فؤاد شبل في كتابه "توينبي مبتدع المنهج التاريخي الحديث"). والحال أن نظرية توينبي قد جوبهت بالعديد من ضروب الانتقاد، ولقد طاول النقد أساساً غموضَ تحديده لمفاهيم مثل "الحضارة" و"الثقافة" و"المجتمع"، إضافة إلى مغالاته في استخدام النموذج الإغريقي في سبيل دراسته تواريخ الحضاراتِ وأفولها، واستخدامه الاساطيرَ والاستعاراتِ بوصفها دوراً يمكن مقارنتها، وعن جدارة، بالمعطيات الواقعية. علماً أن توينبي ومنذ الحرب العالمية الثانية حرق دائرة اهتمامه ومركز الثقل في نظريته من عالم الحضارات، إلى عالم تواريخ الأديان معتبراً أن الأديانَ هي التعبيرُ الأمثلُ عن الحضارات.