في رائعة المخرجة الفرنسية أغنيس فاردا، "كليو من 5 إلى 7"Cléo de 5 à 7 ، يرسم ذلك الفيلم المفعم بالحياة الذي يعد من كلاسيكيات "الموجة الجديدة" (آنذاك) في السينما الفرنسية، خيالاً عن باريس بوصفها منزلاً مصنوعاً من مرايا. إذ ينتهي المطاف دوماً بالمرء إلى مواجهةٍ مع انعكاس صورته الخاصة؛ سواء على واجهات المتاجر، أو أسطح الزَلّيج على جدران المقاهي، أو زجاج النظارات في محلات بيع الإكسسوارات. ويتبادل الغرباء النظرات، كي يتمكنوا من مجرد رؤية انعكاس صورهم في التعابير الفضولية للآخر. وثمة امرأة شابة تجول في المدينة وتترقب موتها. نحن ننظر إليها. وتطيل هي النظر إلى نفسها في المرآة. يتطلع انعكاسها نحونا. يلاحظ الآخرون حضورها، لكنهم نادراً ما يرونها كما هي. جعل الجمال جسدها مرئياً، لكن الحال ليس كذلك بالنسبة إلى روحها.
لطالما وُصفت فاردا بالأم الروحية لـ"الموجة الجديدة" في السينما الفرنسية. لكن هذا اللقب غير منصف. إذ وقفت فاردا في قلب تلك الموجة، لأنها فهمت على أفضل وجه قوة النظرة التي تملكها الكاميرا. لقد كان زملاءها الذكور (وغالبيتهم ذكور) في معظم الأحيان نقاداً وأكاديميين، فيما دخلت فاردا المشهد السينمائي كمصورة فوتوغرافية. لا تقتصر روعة "كليو من 5 إلى 7" على التأليف فحسب، بل في فهمه بحميمية فنَّ النظر، وعلى وجه التحديد تلك الكيفية التي كانت النساء يُخلَقن ويُدمَّرن بها، في أعين الآخرين.
ركّز كثير من الروايات الحديثة عن فاردا على التهميش النسبي الذي تعرضت له في سجلات التاريخ. لا شك في لو أننا كنا نعيش في عالم مختلف تسيطر عليه أبوية أقل ظلماً، لكان دارسو السينما على معرفة بفيلم "كليو من 5 إلى 7" تماماً مثل درايتهم بأعمال فرنسية لمخرجين رجال كـ"منقطع الأنفاس"، أو "400 ضربة" (= "مكابدة المشقّات").
ويستعرض الفيلم جزءاً من يوم 21 يونيو (حزيران) 1961 في حياة كليو (الممثلة كورين مارشان)، بالتوقيت الحقيقي من الخامسة مساء وحتى السادسة والنصف مساءً، ولاحقاً، تصبح الدقائق المفقودة في غاية الأهمية. كليو مغنية تقف على أعتاب الشهرة، وتنتظر ظهور نتائج اختبار طبي تخشى أنه سيؤكد إصابتها بسرطان المعدة. تلجأ المرأة إلى الآخرين في حياتها آملة أنهم سيقدمون إليها بعض الراحة. بينما تتمشى في المدينة، يشرئب الناس لإلقاء نظرة خاطفة على جمالها. ترى مساعِدتها، وتشتري لنفسها قبعة شتوية باهظة الثمن، لكنها في غير موسمها. وفي منزلها، يزورها أحد عشاقها (جسّد الدور الممثل الإسباني خوسيه لويس دي فيلالونغا) واثنان من كتّاب كلمات الأغاني (جسّدهما ميشيل لوغران المؤلف الموسيقي الذي وضع كلمات أغنية الفيلم، والمخرج المؤلف السينمائي سيرج كوربير). وفي وقت لاحق تلتقي بصديقتها (الممثلة دوروثي بلانك) التي تعمل نموذجاً حياً للرسم في كلية الفنون.
لا يأخذ أحد منهم محنتها على محمل الجد. إذ لا يمكن أبداً ملاحظة علامات الإصابة، أو الموت على الطيور المغردة المصنوعة من الخزف مثل كليو. بالنسبة إليهم، إنها لعبة، ويُرحَبْ بها طالما بقيت مجرد تمثال يمكن وضعه فوق منصة. وبحسرة تقول، "يدللني الجميع، لكن لا أحد يحبني". عندما لا تسير الأمور بشكل صحيح خلال لقاء يجمعها بعرّافة (في مقطع شكّل المشهد الملّون الوحيد في فيلم بالأبيض والأسود، وقُدّم هذا الجزء بدرجات من اللون البني المحروق)، تلجأ إلى انعكاس صورتها في المرآة. وتخبر كليو نفسها إن "القبح شكل من أشكال الموت. طالما أنني جميلة، فأنا أحيا حتى أكثر من الآخرين".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في المقابل، لقد شرع ذلك التدخل الفظ للأخلاقيات في تشويه وجهة نظرها، سواء بالمعنى الحرفي للكلمة، إذ تلتقط صورتها في شظايا مرآة جيب محطمة، أو بالمعنى الروحي. إنها الآن رهن لإرادة الكون، تكتشف الإشارات والخرافات عند كل منعطف. وكذلك تتحول الأقنعة المنحوتة ولاعبو الخفة في الشوارع، إلى نُذُرْ شؤم. واستطراداً، يبدو كأن الفيلم الصامت الذي تعرفها صديقتها عليه (الذي يزينه عملاقا الموجة السينمائية الجديدة المخرج جان لوك غودار والممثلة آنا كارينا كاميو)، يحمل معنى قد غفلت عنه. طبيعة البطلة مارشان الفاتنة والشقية كالقطط، التي تبرز عبر لمسة من الكحل الأسود، تبدّلت إلى استحياء. يبدأ ظهرها في التقوس عندما تكون في حالة دفاع. وتلتقط فاردا بعيني صانعة الوثائقيات، تلك التحولات الصغيرة في سلوك كليو والمدينة المستعرة والمتنافرة الموجودة خلفها.
عندما تكون لوحدها في المنتزه، يقترب منها أنطوان (الممثل أنطوان بورسييه)، وهو جندي يقضي إجازة من الحرب الجزائرية. يعرض على كليو مرافقتها إلى المستشفى، حيث يمكنها مواجهة الطبيب بدلاً من انتظار مكالمته الهاتفية على أحر من الجمر. بالنسبة للرجل الشاب، أفرغت الحرب الموت من معناه. إن نظرتهما للموت تقرّبهما من بعضهما. كما أن أنطوان رجل دمث ومهتم .إنه شخص يصيخ السمع ومتفهم. وقد أمضيا سوية وقتاً شاعرياً. للمرة الأولى في فيلم فاردا، تمكن شخص من رؤية ما هو وراء الأوهام السطحية. وأخيراً، تبدو كليو إنسانة من لحم ودم، وليست مجرد حلية رخيصة الثمن، أو امرأة تصلح للمغازلة العابرة. وتالياً، تتوقف عن البحث عن عزاء في انعكاس صورتها.
تمنحنا فاردا العابثة دائماً، تحريفاً عند نهاية الحبكة الدرامية. إذ يكشف طبيب كليو أن مرضها ليس مميتاً، بل يمكن شفاؤها بالعلاج لبضعة أشهر. تغادر جنباً إلى جنب مع أنطوان. وتخبره أنها سعيدة. لكن، لماذا يهجم صمت غير مريح بينهما في تلك اللحظة؟ هل لأنهما لم يعودا حبيبين يعيشان في الوقت المستقطع؟ تترك فاردا لجمهورها أن يختار ما الذي فعلته كليو بين الساعة 6:30 مساء، و7 مساء. إنها تدير نظرها تجاهنا.
© The Independent