محمد خيري هو ابن حلب، المدينة التي "احتضنت" أبرز مطربي القدود الحلبية. إقامته في بيروت، فتحت أمامه الأبواب للانطلاق عربياً، وهو يُعدُّ اليوم الأبرز على الساحة العربية من بين الفنانين الذين يؤدّون هذا اللون.
خيري لا يرى أن غناءه للقدود الحلبية "يأسره" ويحول دون غنائه ألواناً أخرى، إذ يقول: "القدود الحلبية من أصعب الألوان الغنائية، ومن يغنيها يسهل عليه غناء أي لون آخر، ولكني أبتعد عن غناء الألوان التي لا تناسبني. الموهبة نعمة من الله، ومَن يملك صوتاً جميلاً، لا يعني بالضرورة أنه قادر على غناء كل الألوان. الفن كالملابس وكل صوت يناسبه موديل معين".
ولأن المقصود بـ"الأسر" هو مدى تقبّل الجمهور له بالألوان الغنائية الأخرى، يجيب "الناس يتقبّلون أي أغنية جديدة أطرحها، لأن اختياري لأعمالي صحيح وفي مكانه".
ويوافق خيري على أنه اليوم الأكثر شهرة بين الفنانين الذين يغنون القدود الحلبية، ويوضح "لا يوجد من بين فناني الجيل الجديد من يقدّم هذا اللون". ولأنّ هذا الأمر ينسحب أيضاً على الجيل الفني الذي سبقه، في حين أن مَن يغنون هذا اللون في برامج الهواة، يفعلون ذلك بهدف استعراض أصواتهم فقط، يقول "صبحي توفيق غنّى هذا اللون وأجاده، وإليه قدّم أعمالاً خاصة، ولكني لا أذكر فناناً غيره. أما بالنسبة إلى برامج الهواة، فإنّ أعضاء لجان التحكيم يوجهّون الهواة إلى غناء أعمال معينة، من بينها القدود، لتكتشاف قدراتهم الصوتية. ربما هذا اللون يخيف فنّاني الجيل الشاب، فيمتنعون عن غنائه، ومعظمهم يفضّل الأغنية الضاربة، لأنها تجعلهم نجوماً، مع أنني لا أرى أن هذه الأغاني تصنع نجومية. الفنّان الذي لا يملك ثقافة موسيقية ولا يغنّي على المسرح لا يمكن أن يستمر، والأغنية الضاربة تصنع نجماً لفترة لا تتجاوز الـ3 أو 4 أشهر، ومن بعدها يعيش قلقاً، لأنه لا يعرف ما إذا كانت الأغنية التي تليها، ستضرب أو لا. ماذا يفعل النجم الذي لا يضرب ألبومه أو الذي لا تضرب أغنيته؟ هو سيغنّي أعماله القديمة ولكن الناس سرعان ما يملّون منه".
بين الغناء والتمثيل
وعن سبب عدم بروز أسماء جديدة في عالم الغناء كما يحصل في عالم التمثيل، يقول: "التمثيل والغناء مجالان مختلفان تماماً، في الأول قد لا تكون الموهبة موجودة، وبعض التمارين كفيلة بأن تجعل الفنان قادراً على العطاء بنسبة 40 في المائة، لكي لا نظلم الممثلين الموهوبين. أما في الغناء، فمَن لم ينعم عليه الله بخامة الصوت، فهو لن ينجح أبداً مهما خضع للتمارين. صحيح أن المجالَيْن، يندرجان في إطار الفن، ولكن الغناء له مقوّمات، وفي مقدمها الصوت الجميل. فن التمثيل يمكن أن يُدرَّس، أما فن الغناء، فهو موهبة أولاً ومن ثم يُدرَّس".
وكيف يفسّر جلوس أصحاب الأصوات الجميلة في بيوتهم، وبروز أسماء غير موهوبة على حسابهم؟ يقول: "الذين يملكون أصواتاً جميلة كثر، ولكن في زمن لم يَعُدْ فيه الفنان صوتاً جميلاً فقط، بل يجب أن يكون ذكياً على المستويين الشخصي والمهني، وأن يعرف كيف يصنع نفسه وفق خطة عمل معينة. عندما بدأتُ الغناء، لم أفعل ذلك لمجرد الغناء واستعراض نفسي أمام الناس، بل كنتُ أدرس كل خطوة بشكل صحيح، لأنه كان لديّ هدف ونجحت في تحقيقه. موضة مكتشفي المواهب اندثرت، ولم يَعُدْ هناك صناعة نجوم، وهذا الأمر يقف وراء الضعف الذي تعيشه الساحة الفنية وكثرة في الأغاني التي لا طعم ولا لون لها كالفاكهة التي تأتينا في الشتاء".
وردّاً على مَن يعتبرون أن غياب مدير الأعمال الجيّد، هو الذي يعيق نجاحهم، يوضح: "أي فنان يجب أن يكون مدير أعمال نفسه، وأن يعرف ماذا يريد. الفنّان الذي لا يتعذّب، لن يصبح فنّاناً، وكل الفنّانين الذين خلّدوا أكدوا أنهم تعذبوا، لذا فإن الفنّان الذي لا يملك خلفية في الفن والسوق لن يستمر، لأن الأغنية لا تصنع فناناً. جورج وسوف، صاحب الأرشيف الفني الوفير تعذّب كثيراً، وصنع نفسه بنفسه ولم يأخذ أحد بيده. الفنّان هو من يأخذ القرارات بنفسه، يندم عليه ويتعلّم من تجاربه، بعيداً من وجود فريق يدعمه ويديره بشكل صحيح وينتج أعماله. وقد يطرح أغنية وتتراكم ديونه ولا يستطيع سدادها لأنها لم تنجح، فيعيش عذاباً نفسياً وجسدياً. وهذا ما حصل معي ومع أي فنّان حقيقي لديه اسم في السوق وجمهور حقيقي. لا يوجد فنّان حقيقي بضربة حظ". في المقابل، أكد خيري أن الحظ كان حليف الفنّانين الذين وقف وراءهم أشخاص صنعوا نجوميتهم، وتابع "عدد قليل من خرّيجي برامج الهواة، على الرغم من كثرة عددهم، حقّقوا الاستمرارية. الوضع مأساوي بالنسبة إلى معظم خرّيجي هذه البرامج، وفي الأساس لا يوجد فنّ حقيقي حالياً. كثيرون يقولون لي نريد أن نصبح مثلك، فأردّ عليهم "بلا وجعة الراس"، لأن الوضع الفني مذرٍ، لا جملة ولا كلمة ولا لحن، بينما في التسعينيات كان الفنان يُحاسَب على الكلمة التي يغنيها".
جورج وسوف وصباح فخري
وعَمّا إذا يؤيد استمرار جورج وسوف في الغناء، خصوصاً أن صوته فقد بعضاً من بريقه، يجيب: "لا أحد يعرف إحساس الفنّان عندما يكون لديه جمهور وأرشيف فني كبير، ولا أحد يعرف ما معنى غناء. أنا خضعتُ لعملية جراحية في ظهري قبل خمسة أعوام وأُجبرت على ملازمة البيت، ولو أنهم حملوني يومها مع الكرسي ووضعوني على المسرح، لكنتُ وافقت لأنّ الغناء مورد رزقي. لستُ ضد الفنّان عندما يريد الغناء ولستُ ضده أيضاً عندما يقرّر البقاء في بيته، ولا يحقّ لنا أن نطلب منه البقاء في البيت لأنه لا يصلح للغناء. جورج وسوف صاحب تاريخ فني عريض وعندما نطلب منه البقاء في البيت، وكأنّنا نطلب تدمير التاريخ، بصرف النظر عَمّا إذا كان قد تغيّر أداؤه عَمّا كان عليه في السابق. أنا أحبّ الوسوف، ولا يعقل أن أكون معه عندما كان في عزّ عطائه، وأن أطلب منه اليوم البقاء في البيت لأنه أصبح مريضاً".
وهل يطربه صوت الوسوف اليوم؟ يردّ:"هناك مخزون هائل وخبرة سنوات طويلة تغني! صباح فخري في الثمانين ليس هو نفسه في الأربعين، وعلى الرغم من ذلك أقول "آه" عندما يغني. شاهدت اسكتش للفنان حسن حسني قبل وفاته بشهر واحد، ولقد أضحكني كثيراً مع أنه كان يجلس على كرسي، وحتى لو لم تساعد الصحة، فإن الخبرة والتجربة تعوّضان. المهم أن يكون الأساس صحيحاً".
خيري الذي تأثر وتتلمذ على أيدي الفنان صباح فخري، كان داعمه الأول، عندما أكد له أن خامة صوته مناسبة للغناء وطلب منه العمل معه كمردّد، قبل أن يسمح له بالغناء قبله في بعض الحفلات، هل يؤمن بالوراثة الفنية، وما موقفه من محاولة أنس فخري السير على خطى والده، يوضح: "الفن لا يورَّث، وهو يعني هل أنت موجود أو لا، والجمهور هو الحكم. يمكن للممثل أن يُورث ابنه التمثيل، كما تجربة عادل أمام وابنه محمد الذي يحاول أن يقدم جواً شبيهاً بالجو الذي يقدمه والده، ولكن الناس عندما تحصل المقارنة، تكون الغلبة للأب، لأنه لن يكون كوالده أبداً، ولو أنه غيّر كنيته لاختلف الوضع، كما فعلت إنجلينا جولي التي لم تتكنَّ باسم والدها بل كوّنت شخصية خاصة بها، وهذا الأمر صبّ في صالحها، لكن في مجال الغناء، حتى لو كنتُ ابن محمد عبد الوهاب، لن أتمكّن من أن أكون بمثل موهبته".
حفلات اللايف
وفي زمن كورونا، يؤيد خيري حفلات "اللايف"، قائلاً: "لمَ لا! نحن نعيش وقتاً استثنائياً، والناس بحاجة إلى الترفيه ومشاهدة الفنّانين الذين يحبّونهم ويحبّون حضور حفلاتهم والاستماع إلى أغانيهم على الرغم من أن أجواء الغناء فيها تختلف عن أجواء الغناء على المسرح، وقريباً سأحضّر حفلة لايف. الفنّان بحاجة إلى الغناء وإلّا سيموت. وأنا خلال فترة الحجر مع بداية أزمة كورونا، شعرتُ أنني فقدتُ أعصابي، لأنني حُرمتُ من ممارسة العمل الذي أحبّه. لم يحصل سابقاً أن بقيتُ خمسة أشهر من دون غناء ومن دون مشاهدة الجمهور، وهذا الأمر آذاني كثيراً، وما لبثتُ أن تقبّلتُ الموضوع، لأنه لم يكن شخصياً، وعندما أحييتُ قبل نحو أسبوع حفلاً في "التياترو"، شعرتُ براحة نفسية وغنيتُ بسلطنة، خصوصاً أن الصالة كانت كومبليه".
خيري الذي أنجز في شهر آذار(مارس) الماضي أغنية "الحق علي"، أتبعها بأغنية "إستاذ الغرام" من حفل "مهرجان بيروت"، وقريباً سيصدر أغنية بعنوان "سنين" من ألحان طارق أبو جودة وتوزيع باسم رزق.