Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

نظرية فوكوياما عن "نهاية التاريخ" تسقط في غزة

بيسان عدوان تكتب مرويات الشتات الفلسطيني بروح غنائية

لوحة للرسام محمود عبد على جدار في غزة (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

يمكن القول إن ثيمة الشتات تعد أبرز ملامح حياة الكاتبة الفلسطينية بيسان عدوان، فقد ولدت داخل مخيم عين الحلوة في جنوب لبنان لأب فلسطيني وأم مصرية، ثم نشأت وتلقت تعليمها في مصر إلى أن انتهى بها الأمر للاستقرار في تركيا، ومن هناك أصدرت كتابها "مرويات الحرب – فوكوياما يسقط في غزة" (دار صفصافة).

 يلقي الشتات بظلاله القاسية على كتاب "مرويات الحرب - فوكاياما يسقط في غزة" وهي ظاهرة لا تخص بيسان عدوان وحدها، حتى إننا من الممكن أن ندرس ظاهرة الشتات والمنفى داخل قوالب الأدب الفلسطيني بصورة عامة. وإذا كان الشتات هو الملمح الأبرز في حياة الشخصية الفلسطينية فإن المقاومة هي الوجه المقابل له. وتختار بيسان عدوان المفكر الأميركي فرانسيس فوكوياما بوصفه ممثلاً للاستعمار الجديد الذي يسعى إلى هيمنة القطب الليبرالي الرأسمالي ممثلاً في الولايات المتحدة الأميركية، بعد صراع طويل وحرب باردة مع القطب الاشتراكي الذي كان يمثله الاتحاد السوفياتي السابق. فبمجرد انهيار القطب الثاني انبرى فوكوياما إلى التبشير بـ"نهاية التاريخ" بانتصار نهائي للرأسمالية. ولأن هذا القطب لا يعيش إلا على حساب عدو حتى لو كان متوهماً فحل صمويل هنتنغتون هذه الإشكالية بحديثه عن "صراع الحضارات". وتتوقف عدوان عند فوكوياما تحديداً وترى أن التاريخ لم يكتب كلمته النهائية، من خلال نضال غزة ومقاومتها لمشروع إسرائيل الكبرى.

لا تقع الكاتبة في الفخ الأيديولوجي بل تقدم رؤيتها بحس إنساني وأسلوب شاعري يتجلى في المجازات المتتابعة "لا هدنة مع الوقت/ لا هدنة مع الموت/ ولا سكون يرفل فوق المكان/ وسط ضجيج المنافي أخبرك كل نهار/ صباح الورد، فتستيقظ الحواس كرفيف يتدفق في القلب فيمنح الأمل". واللافت أن الكاتبة تكتب مروياتها عن الحرب في صورة سطور شعرية، مما سيختلف في بعض المواضع ليأخذ صورة السرد. وتقوم السطور السابقة على حس مرير بالمفارقة البادية بين الموت الدائر بلا توقف ولا هدنة موقتة والاعتصام بالأمل على رغم كل هذا الدمار، إضافة إلى الصور الاستعارية والتشبيهات الدالة. ولا تؤرخ عدوان للحرب في غزة فقط على مدار ما يزيد على عام بل ترى الصراع في شموله الذي بدأ منذ عام 1948، وربما قبله. ومن هنا جاءت عناوين المرويات معبرة عن ذلك (السنة الأولى للحرب – السنة العاشرة للحرب – السنة العشرون للحرب – السنة الثالثة والثلاثون للحرب...) وهكذا في انتقالات زمنية واسعة من خلال ما يعرف، سردياً، بالثغرات الزمنية.

ومن الواضح أن هذا الصراع الوجودي يستحضر ما يسمى البنية الزمكانية، فحضور الزمان واضح في العناوين السابقة وكذلك في قولها "مئة يوم مرت على الحرب هناك، لا انتصار ولا هزيمة/ كل شيء معد مسبقاً". على أن هيمنة البنية الزمكانية تؤكد حضور الرؤية البصرية، ويتضح هذا في قولها "حين تنتهي الحرب/ في البيت البعيد حين تأتي/ ستجد كثيراً من صور البلاد معلقة على حائط غرفتي البيضاء/ وتحت كل صورة يومياتها في منشية يافا/ وعلى الشاطئ هناك صبية أفلتت جناحيها للريح فسميناها يافا".

الحب والحرب

ثم تستحضر صور أمها وأبيها في طبرية وصورة جدتها "وهي تخبز المنامات كل صباح". إننا هنا أمام توظيف لتقنية الاسترجاع وتفعيل الذاكرة لرسم تلك المشهدية الحميمية التي كانت تجمع تلك الأسرة وغيرها من الأسر الفلسطينية. هذه المشهدية تُستدعى في أعوام الحرب بوصفها ضرباً من المقاومة، ففي "الحرب نرى ونسمع ونشم ونتذوق بسرعة فائقة/ كأننا نهرول خارج الزمن"، وذلك بصورة أكثر جلاء من خلال استنفار كل هذه الحواس التي تقاوم الموت المحيط. بل تصبح هذه الحرب التي لا تنتهي دافعاً لعودة، أو استعادة، كل الأمنيات. وهذه إحدى ثنائيات الكتاب البارزة، فالخطاب موجه لذلك العاشق الحاضر دائماً، العاشق الذي يتكامل مع الذات الأنثوية الساردة والذي يمكن وصفه بأنه خارج بنية الخطاب لكنه دائم التأثير والحضور فيه. وتقول بيسان عدوان مخاطبة عاشقها البعيد "حين تنسج من الأشجار أريكتي وخريطة البلاد/ لا تنس – هناك أيضاً- في الغرفة سرديات الحرب والحب".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بل إن لغتها تتلون برومانسية واضحة حين تقول "فقط أنا وأنت وأجنحة النورس/ والبحر حين ينام بين قلبين فينجب مدن البرتقال والعنب الأحمر والرمان". هذا الحب يبدو قدرياً لا حيلة للذات معه على نحو ما يبدو في قولها "لم يكن الأمر باختياري/ كل الطرق كانت تؤدي إليك/ من دون قصد مني". وهكذا كتبت له رسالتها الأخيرة حين ودعته. وفي الحرب يصبح الاحتياج إلى الحب أكثر إلحاحاً ويصبح الإحساس به مختلفاً، تقول "أتعرف أن للحب مذاقاً هو الآخر/ لا نعرفه إلا حين تبدأ الحرب/ وتنكسر الجوارح". وتبقى الحقيقة المؤكدة التي لا تمل الكاتبة عن تكرارها هي ذلك الحب المهيمن عليها "حين تغفو سأهمس لك أني أحبك/ أتعرف كم مرة أخبرتك بها؟". ونصبح في هذه الحال أمام زمن نفسي مختلف عن مقاييس الزمن الطبيعي والرقمي، ومما يدل على ذلك قولها "اليوم المئة بعد ألف عام/ لا الحرب تنتهي/ ولا الحكايات/ فقط أنا وأنت ويافا". ومن خلال هذا السطر الأخير يتضح تداخل العام والخاص، إن كان هناك شأن خاص في هذه الملحمة الفلسطينية.

استدعاء الأسطورة

وامتداداً لهذا تقول بيسان عدوان في موضع آخر "كثير من الأمنيات لم أخبر بها أحداً/ كنت أدخرها لك ذات مساء/ حين نسكب الشوق في الروح/ ونجلس على ضفاف المخيم نرقب البلاد القريبة/ ونرسم بيتاً من شجر البرتقال". فالبلاد القريبة هي المبتغى النهائي الذي لا تتخلى عنه الساردة، والذي تستعيده دائماً بالحكايات والأمنيات. وتوجز الساردة علاقة الحب بالحرب بقولها "لا ينبت الحب إلا مع الخوف والحرب/ يصبح الحب مرادفاً للحياة/ يشبه ذلك الحصان الأبيض ذا الجناحين/ خارجاً من الأسطورة/ يجوب المدى". بل يتم استئناس الحرب واعتيادها كأنها إحدى تفاصيل الحياة. وتقول في ذلك "الحرب كما هي منذ سنوات تجلس معك على الكرسي الكبير/ في زاوية البيت خلف الشباك الزجاجي". هذا اليقين في الحياة يدفع الذات الأنثوية وعاشقها إلى مقاومة القتل والبرد والجوع بما يناقضها "أمسك يدي ورقصنا معاً خلسة/ وبعيداً من أعين كل اللاجئين والمخيمات والأطفال الذين قتلهم البرد والجوع".

إن الحكايات المئة بعد الألف عام تستدعي حكايات "ألف ليلة وليلة"، كما يستدعي الحصان الأبيض ذو الجناحين صورة "البراق" في المخيلة الإسلامية، أو صورة بساط الريح الذي يجوب المدى. وفي هذا السياق تستدعي الكاتبة أسطورة إيزيس بوصفها رمزاً للخصب واستعادة الحياة، وهو ما يصدق على حال غزة كأنها إيزيس أخرى معاصرة فمن تحت أنقاض بيوتها تولد الأشجار، وعلى رغم طائرات العدو يبقى مفتاح تلك البيوت رمزاً ليقين العودة. وتقول تحت عنوان "خمسة وسبعون عاماً للحرب"، إن "الحرب هي طريقة الشيطان الوحيدة ليعلمنا الجغرافيا/ والقتل هو طريقته الوحيدة ليعلمنا البقاء". فالحرب والقتل يأتيان بعكس ما يهدفان إليه، فمن خلالهما يتعلم الفلسطيني جغرافية المكان كما يتعلم إرادة البقاء.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة