لا شك في أن لازمة "أنت في وضعية الصمت" (في لقاءات العمل على الانترنت)، هي الأكثر شيوعاً في 2020. فشطر كبير من موظفي العمل المكتبي قضوا شهوراً وهم يعملون من بيوتهم. لكن على الرغم من الملل الذي تتسبب فيه مكالمات الفيديو المتواصلة، على وقع نباح الكلاب وصراخ الأطفال (في خلفية الفيديو)، أصبح مألوفاً الحديث عن المكاتب وكأنها معلم من بقايا الماضي.
وفي هذه الرؤية إلى المستقبل، يُنتظر أن يسأل بعض الأطفال الذين يقومون بجولات مدرسية إلى متحف المكاتب، ويحدقون بالنماذج المصنوعة لموظفي المكاتب ببدلاتهم الرسمية، فيما هم يتحدثون مع بعضهم البعض بجانب جهاز تبريد الماء، أو مشاهدتهم وهم مجتمعون في غرف الاجتماعات، حيث يتواصلون مع بعضهم البعض عبر النقر على ألواح مفاتيح الكمبيوترات الكبيرة التي تكون قد اختفت آنذاك- يُنتظر أن يسألوا أمهاتهم: "لماذا لا يستعملون (تطبيق) "زوم" للتواصل فيما بينهم"؟
غير أن ثمة أسباباً أخرى يُعتد بها تحمل على التشكيك في أن مآل الامور سيكون على هذا المنوال. فحسب استطلاع للرأي أجراه موقع "فرديكت" Verdict الالكتروني خلال شهر يونيو(حزيران) 2020، اتضح أن أغلبية الموظفين يريدون أن يكون العمل في المكاتب جزءا من آلية شغلهم بعد رفع الحجر. وقال ثلاثة من بين كل أربعة موظفين إنهم يريدون العمل في المكاتب، لبعض من الوقت على أقل تقدير، فيما فضل ربع المستطلَعين فقط العمل بدوام كامل من بيوتهم.
وهذا يعني أن النقاش الحاد المتوقع، حول عودة العاملين إلى مكاتبهم، قد لا يتحقق أبداً. وبصفتنا أرباب عمل، نحن مكنّا طبعا الجميع من العمل من بيوتهم خلال أزمة فيروس كورونا. لكن مكتبنا فتح أبوابه أمام أولئك ممن شاء القدوم إليه منذ بداية شهر يوليو(تموز) الحالي، وعدد من الاشخاص في فريق عملنا بدأوا يعودون إلى مكاتبهم طوعياً.
نحن نتبع الإرشادات الحكومية لجعل بيئة العمل آمنة. وفي المقابل، بدأ موظفونا بالمجيء إلى المكتب لأنهم يريدون ذلك، ولأنهم يرون في عودتهم فوائد إنتاجية واجتماعية، لا لأن أحدهم أملى عليهم ذلك. كان أمرا إيجابيا بالنسبة للزملاء التحدث مع بعضهم البعض والاستمتاع بصحبة بعضهم بعضاً من جديد، والتشارك في تجاربهم في مرحلة ما بعد الإغلاق ( الحجر).
يمكن القول إن هناك بعض الشركات الأكثر نجاحاً في العالم، بما فيها فيسبوك وغوغل، صممت مكاتبها لزيادة فرص الاحتكاك والتفاعل غير المخطط له بين موظفيها- وهذا لأنها ترى أن هذا النهج يزيد من الإنتاجية والابتكار.
بل حتى مع التزام التباعد الاجتماعي في بيئة العمل في مكتب ما، سيبقى الموظفون يُعدون القهوة لأنفسهم ويدردشون مع بعضهم البعض خلال ساعات الدوام اليومي، وهم يتشاركون فيما بينهم المعرفة والأفكار خلال ذلك.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لقد ساعدت أواصر المحبة والتقدير التي تنامت بين زملائنا قبل الإغلاق (الحجر) على عبورنا هذه المرحلة. والآن نحن بحاجة إلى العودة إلى مكان عملنا لرؤية بعضنا للآخر بشكل شخصي، ولتجديد تلك الأواصر، وإنشائها مع الكوادر الجدد. فالفائدة النفسية من معرفة أولئك الذين يعملون معنا - بشكل حقيقي وفعلي- يبقى قوياً. ولعلهم لم يحسبوا أنهم سيفتقدون إليهم قبل كوفيد-19، لكن الزملاء افتقدوا زملاءهم.
ومن جانب آخر، تشير اليوم كثير من المانشيتات المكتوبة من دون عناء، إلى أن في وسع أي شركة تقليص النفقات (وتحقيق الأرباح) إذا ما شاءت تقليص حجم مكاتبها، لكن الحقيقة أكثر تعقيدا من ذلك، فبحثنا يظهر أن تكاليف المكتب اليوم تشكل جزءا صغيرا جدا من نفقات الشركة العامة مقارنة بتكاليف الأجور والرواتب المدفوعة للكادر العامل. فبينما كانت الشركات تنفق على مبانيها خلال السبعينيات من القرن الماضي أكثر مما تنفقه على كوادرها – فإن موازين الامور تغيرت بشكل كبير خلال العقود الخمسة الأخيرة. ففي تسعينيات القرن العشرين شكلت تكاليف المكاتب 30 في المئة من رواتب الكوادر العاملة، واليوم وصلت النسبة ما بين 7 و10 في المئة.
يشكل توظيف الموهوبين والحفاظ عليهم اليوم القسط الأكبر من التكاليف بالنسبة لأرباب العمل. فالاشخاص يفضلون غالباً البقاء في الشركات بسبب الفِرَق التي يعملون معها، فهم لا يستفيدون بشكل كامل من هذه الفرق إن هم عملوا من بيوتهم. وأصحاب العمل يخاطرون بفقدان أغلى ما لديهم – أناسهم- من أجل تقليص نفقات بشكل ثانوي حين لا يُوفر مكان عمل مشترك يُستخدم خلال جزء من أيام الأسبوع على الأقل. لذلك فإن إبقاء جميع العاملين في بيوتهم ليس سوى ادخار زائف.
غير أن الشركات ستقيّم غايتها من حيز مكتبي ومقدار الحاجة إليه أسبوعياً ومن يحتاج إليه. وتصبح الأمكنة المرنة – المكيفة على أكمل وجه مع التباعد الاجتماعي- أكثر جاذبيةً للشركات في طور النمو. ففي الإمكان توسيعها أو تقليصها حسب احتياجات الفرق العاملة فيها. وهذا يعني أن حركة الطلب على حيز مكتبي قد لا تعود بشكل يتناسب مع عودة النمو الاقتصادي، أو حتى إلى المستويات السابقة. لكن الحيز المكتبي المرن سيحقق فائدة سريعة وبشكل لا يتناسب مع حجمه الحقيقي.
وإذا كان معظمنا لا يحبذ أن يعيش فترة طويلة من دون وجود درجة ما من التفاعل مع الزملاء، فإن الجميع سيكونون مسرورين إن هم تمكنوا من تجنب الرحلات الطويلة بين البيت ومكان العمل، فقطارات المترو المزدحمة حيوية ولا غنى عنها في كثير من أجزاء لندن لكنها في الوقت نفسه عامل لانتشار العدوى في حال اشتداد الجائحة من جديد. وحتى مع تلاشي فيروس كورونا، قد لا يتبدد الشعور بعدم الارتياح من أن الأمكنة المزدحمة والمغلقة غير صحية.
وقبل الجائحة، كانت لندن المنطقة الوحيدة في المملكة المتحدة التي يغادر السكان فيها إلى مناطق بريطانية أخرى أكثر ممن يأتون إليها. فحسب بيانات مكتب الإحصاء الوطني، زاد عدد الأشخاص المغادرين للعاصمة لندن عن عدد القادمين إليها 94 ألفاً خلال صيف عام 2019. وكانت الهجرة منها إلى مناطق أخرى داخل المملكة المتحدة خلال عامي 2016 و2017 أعلى من ذلك، وهناك أكثر من سبب لارتفاع هذا المنحى مرة أخرى. وإذا لم يحسب عدد المهاجرين إليها من خارج بريطانيا، فإن مجمل عدد سكان لندن يتراجع.
ومن اليسير معرفة السبب وراء ذلك. فبعد مرور أشهر على بقاء السكان محجورين في مكان واحد، جعل فيروس كورونا نوعية الحياة خارج مكان العمل موضع اهتمام أكثر من السابق. فحيز المكاتب خارج وسط لندن، صارت أكثر جاذبية من أي وقت سابق، مع بروز "مدن بريطانية ثانوية" وازدهارها. وهناك تنافس شديد على الإنتاجية والأداء بين برمنغهام ومانشستر، مع وجود مدن رائعة أخرى ذات روحية تنافسية عالية.
والعمل عن بُعد، والخروج من العاصمة البريطانية ظاهرتان ساهم فيروس كورونا في تسريع وتيرتهما، لكنه لم يكن وراء نشوئهما. وكلتاهما لا تعنيان أن طاولات العمل الإداري والكراسي الدوارة ستُحال إلى أماكن بيع الخردة إلى الأبد. لكنهما تغيران وجه المكاتب، ومواقعها الجغرافية ووتيرة دوام الأشخاص فيها ومداه. وإذا نجم عن ذلك تراجع اعتماد الاقتصاد البريطاني على لندن وجنوب شرق إنجلترا، وتحسن في نوعية الحياة بشكل عام، فإن ذلك ما نتمنى تحققه في أقرب وقت ممكن.
(براندون هوليهان شريك مؤسس لشركة العقارات البريطانية "كاسلفورج بارتنز")
© The Independent