تتعقد الأمور في تونس بشكل ملحوظ، وقد ارتبكت الحياة السياسية بعد إطاحة رئيس الوزراء إلياس الفخفاخ، وتتداخل اعتبارات عديدة من تزايد الاستقطاب الداخلي وأحاديث المؤامرة الداخلية والخارجية، على أن مفتاح فهم ما يحدث في تونس مع كل تعقيداته وتباين مكوناته يحتاج إلى معالجة أبعاد محددة ربما تفسر الصورة الكلية لمبررات هذه الأزمة.
فقد كانت تونس تحظى برعاية وتكريم أوساط غربية عديدة منذ بداية ثورتها، ووصفت بأنها استطاعت الحفاظ على المسار الديمقراطي، والأهم بالنسبة لهذه الأوساط الغربية أنها استطاعت استيعاب قوى الإسلام السياسي وحزب النهضة، الذي تحرك بعد سقوط الإخوان في مصر، مدعياً أنه ترك مسافة مع تنظيم الإخوان، بل وادعى آنذاك انتقادها وأنه يغلّب مصالح بلاده على روابطه التنظيمية، وكالعادة هللت هذه الأوساط الغربية واحتفت بهذه التطورات والتحضير لاستيعاب حزب النهضة في الحياة السياسية التونسية وتقديم نموذج سياسي جديد. ولم يحقق حزب النهضة في الانتخابات الأخيرة أغلبية، ولكنه حقق أعلى نسبة تصويت سمحت له بالمطالبة برئاسة البرلمان واستفاد بتخبط وعجز التيارات المدنية عن التوحد وطرح نموذج ورؤية فكرية وسياسية متكاملة، كما حاول المنافسة على منصب رئيس الدولة وأخفق، وتبين خلال هذه التطورات سعيه الدؤوب للسلطة، ليس فقط للمشاركة وإنما الاستحواذ، خلال كل ذلك واصلت الأوساط الغربية احتفاءها بالتجربة التونسية مدعية أنها تجربة رائدة في احتواء التيارات السياسية المختلفة وعلى رأسها الإخوان المسلمون، ثم انفجرت كل هذه الادعاءات أخيراً من خلال مظاهر عديدة.
فالأوضاع الآن في تونس شديدة التعقيد، ووصلت الأمور إلى ورطة دستورية وسياسية حادة، واضطر رئيس الوزراء إلياس الفخفاخ إلى الاستقالة، وصرح منذ أيام أن حركة النهضة عرضت عليه صفقة قبل أسبوعين من تقديم استقالته بضم وزراء ينتمون إليها مقابل البقاء في منصبه وهو ما رفضه، وأضاف أن الحركة تعد هي الطرف الأبرز في افتعال الأزمة السياسية الحالية، وتتعامل مع الحكم كما لو كان غنيمة وولاءات وامتيازات، ولا تهتم بمصالح البلاد.
تداعيات الأزمة الليبية
على صعيد آخر، وربما بشكل أكثر تعقيداً تتصاعد أزمة أخرى دستورية برلمانية، وتمس صميم الاستقلال الوطني التونسي، وقد بدأت هذه الأزمة مع تقدم ميليشيات الوفاق مدعومة بتركيا وتراجع الجيش الوطني الليبي إلى المنطقة الشرقية في البلاد، فلم يتمكن الغنوشي من إخفاء مشاعره وانحيازه لمشروع الإسلام السياسي ولتركيا، معرباً عن دعمه وترحيبه القوى، وترددت معلومات عن بعض أشكال دعم لأطراف تونسية تزيد على هذا الدعم المعنوي للطرف التركي، لتبدأ أزمة دستورية من تدخل رئيس البرلمان في السياسة الخارجية معتدياً على اختصاصات رئيس الجمهورية المنتخب والمستقل، الذي أعرب عن استيائه، مؤكداً رفض جر بلاده إلى أن تكون طرفاً في الأزمة الليبية، ومشككاً في أن الشرعية في ليبيا حكرٌ على الوفاق، وجاء موقف الرئيس التونسي بهذا متفقاً مع قواعد دستورية مستقرة، وكذا متمشياً مع توجهات أغلبية تونسية معارضة بشدة لتوجه الغنوشي لتتصاعد أزمة دستورية، بعد أن قاد الحزب الدستوري الحر بقيادة البرلمانية عبير موسي حملة لعزل الغنوشي، متهمة إياه بتفضيل ولاءاته السياسية الخارجية على المصالح التونسية الوطنية، وتمكنت من حشد 73 عضواً من البرلمان لعزل رئيس المجلس راشد الغنوشي، ولا تزال المعركة مستمرة مع عدم تمكنها من حشد أغلبية كافية.
وفي الوقت نفسه أدى هذا إلى شلل الجهاز التشريعي في البلاد، ودعوة الرئيس سعيد لجلسة بين الغنوشي وموسى وعدد آخر من قيادات البرلمان لمحاولة نزع فتيل الأزمة ولم تنجح هذه الجهود بعد، كما قام الفخفاخ رئيس حكومة تصريف الأعمال أخيراً بإقالة وزير الخارجية لمواقفه المتحيزة للوفاق وجاء ذلك بناءً على طلب الرئيس قيس سعيد ودون حتى انتظار لتشكيل حكومة جديدة.
تحريك ملفات قديمة ضد النهضة
من ناحية أخرى، ووسط هذا المناخ عاودت هيئة الدفاع عن الناشطين التونسيين شكري بلعيد ومحمد البراهمي اللذين تم اغتيالهما عام 2013، اتهاماتها ضد حركة النهضة، وأكدت في مؤتمر صحافي منذ عدة أيام أن لديها أدلة ووثائق جديدة تثبت هذه الاتهامات، وتؤكد وجود روابط تنظيمية بين "الجهاز السري للنهضة" والاغتيالات، وأضافت كذلك أن الحركة استغلت بعض السلطات القضائية لإخفاء القضية.
وتنفي حركة النهضة اداعاءات وجود تنظيم سري تابع لها كما رفضت مرارا الاتهامات التي يوجهها إليها معارضوها بالتورط في الاغتيالات السياسية.
اللافت أن تفاصيل هذا الجزء من الأحداث تكرار لحالة الإخوان المسلمين في مصر، فقد أنكر الإخوان في مصر لسنوات طويلة وجود التنظيم السري ومسؤوليته عن عمليات الاغتيال السياسي التي لعبت دوراً خطيراً في إسقاط وإرباك النظام السياسي المصري قبل عام 1952، وحاولت أن تستمر باغتيال الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وحتى بعد كشف التنظيم واعترافاته أثناء المحاكمات الشهيرة في الخمسينيات والستينيات واصل التنظيم إنكاره وادعاء عدم وجود هذا الجهاز السري، وهو ما اعترفت به قيادات إخوانية مصرية عديدة بعد ذلك، وهو الذي لا تزال حركة النهضة تنفيه حتى الآن.
وعموماً، بدأت بوادر لغة جديدة متوقعة من بعض كوادر النهضة من أن استبعاد النهضة سيؤدي إلى حرق البلاد، وكأننا نسمع مرة أخرى لتصريحات بعض القيادات الإخوانية في مصر بعد 30 يونيو (حزيران) 2013، متجاهلة ادعاءات الغنوشي آنذاك أو خلال هذه المرحلة بانتقاده التنظيم الأم في مصر للتعجل ولارتكاب بعض التجاوزات، فإذا به اليوم يمارس التعجل نفسه والهرولة الشديدة تجاه المناصب والسلطة والتشبث بها بأي ثمن مهما كانت العواقب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الدروس والدلالات
الشاهد أنه منذ بدأت الثورة في تونس، وبشكل خاص بعد التطورات التي شهدتها مصر باستبعاد تيار توظيف الدين في السياسة، تعرضت تونس لظلم شديد بقبولها أن تصبح معمل تجارب دول وأجهزة ومنظمات مجتمع مدني أرادت لها تجربة ممارسة سياسية تقوم على فرضيتين؛ الأولى، أنه رغم مظاهر التغريب والعلمانية في المجتمع التونسي، أو ربما بسببها فإن هناك تياراً سياسياً مهماً، بخاصة في الريف التونسي للإسلام السياسي، وأن التطور الديمقراطي يعني آليات لاستيعاب هذه القوى السياسية. والأخيرة هو أن حركة النهضة وامتداداتها الإقليمية للتنظيم الأم؛ أي الإخوان المسلمين، أكثر اعتدالاً من التنظيمات الإرهابية الأخرى، ويمكن بإشراكها في السلطة تحويلها لمزيد من الاعتدال.
ومشكلة هذا التحليل تاريخياً أنه لم يكن أبداً صحيحاً، والثابت أن علاقة هذا التنظيم بكل التنظيمات الأكثر تطرفاً كانت قائمة منذ نشأة الأخيرة، فضلاً عن الإخوان هم أوّل من بدأ التنظيم السري، ويعقد الأمر أكثر أن تنظيمات الإسلام السياسي تاريخياً من مصر إلى أفغانستان وإلى أفريقيا كانت دوماً مترابطة فيما بينها، وكذا موظفة سياسياً من قوى خارجية وداخلية لخدمة أهداف سياسية معينة ثم تكتسب دينامياتها الخاصة، بعبارة أخرى أن نفس منطق الفرضية الأولى مردود عليه من الثانية من أن أي تدخل لفرض عملية سياسية معينة فإن فرص نجاحه محدودة كونها ليست نتاج التطور الطبيعي، وكونها منذ نشأتها وعبر تطورها التاريخي. أي هذه الحركات السياسية الإسلامية موظفة خارجياً وداخلياً ما يؤدي دوماً إلى حدوث اللبس والتخبط، فضلاً عن أن نزوعها للعنف وأدوات القهر المادي والمعنوي مرتبط بصميم قراءتها المشوهة للدين وفهمها القاصر له.
ربما يكون هناك بعض التأثير لعوامل خارجية تدفع نحو مزيد من التوتر الداخلي التونسي، ولكن في التقدير أن هذه العوامل الخارجية هامشية، وأن جذور وأبعاد الأزمة داخلية وعميقة، ومن هنا تتزايد المخاوف على استقرار تونس خاصة مع الصعوبات الاقتصادية التي عمقتها كورونا وتراجع السياحة، وبقدر تعقد الأوضاع الخارجية بخاصة ليبيا ستتعمق الأزمة الداخلية. ولا أظن أن تشكيل حكومة جديدة سيؤثر كثيراً، فالتحدي هيكلي ومحوره حزب النهضة، وتزداد الصعوبات أمام الرئيس التونسي قيس سعيد الذي عليه أن يثبت أنه الشخص الوحيد في الظروف الصعبة الراهنة، القادر على إعادة التماسك لبلاده وقيادة حركة سياسية واسعة تعيد النهضة لحجمها الحقيقي، وإيقاف عمليه تشويه التطور السياسي في البلاد.