ينتظر الموريتانيون، من حين إلى آخر، عرض لجنة التحقيق البرلمانية تقريرها حول سيرة الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز على مدى العشرية الماضية، ويخشى من أن يكون هذا التقرير بداية تصدع في الأوساط السياسية بين من يعقدون الأمل على جدية المسعى وإسهامه في محاربة الفساد ومن يعتبرونه مجرد تصفية حسابات بين رموز الأنظمة السابقة.
اليوم، وبعد مرور ستة أشهر على مساءلة كبار مسؤولي العشرية التي حكم فيها الرئيس السابق والاصطفافات المتباينة، بات من الواضح أن محاكمة الرئيس السابق، وصفقة تسليم السنوسي إلى الليبيين، وإهداء أو بيع جزيرة تيدرة لدولة قطر، أصبحت من أهم الملفات التي الحاضرة في المشهد السياسي في البلاد.
هل من إمكانية لمحاكمة ولد عبد العزيز؟
يُتهم الرئيس الموريتاني السابق، بحسب تسريبات لجنة التحقيق، في عدد من الملفات التي تشمل صفقات الطاقة الشمسية، والخط الكهربائي بين نواكشوط ونواذيبو، والعقد المجحف مع شركة بولي هوندونغ الصينية، وملف العقارات الذي ذكرت بشأنه صحيفة "أقلام" أن "اللجنة وضعت اليد على وثائق تثبت تورط الرئيس وعائلته في الاستحواذ على عقارات كانت من أملاك الدولة وبأسعار زهيدة "، كما يتهم بإفلاس وتبديد أموال الشركة الموريتانية للإيراد والتصدير، وشركة صيانة الطرق، وخيرية الشركة الوطنية للصناعة والمناجم، وقد استدعت لجنة التحقيق التي أنشئت في يناير (كانون الثاني) الماضي أشخاصاً وازنين من بينهم الوزراء الأول الثلاثة في حكم الرئيس السابق، كما استجوبت أعضاء في الحكومة الحالية، ورجال أعمال، إلا أنها لم تنجح في استجواب الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز لأنه رفض الاستجابة لطلب المثول أمامها في استدعاء موقّع جاء فيه أنه تمّ ذكره بالاسم والصفة ضمن "وقائع يحتمل أن تشكّل مساساً خطيراً بالدستور وبقوانين الجمهورية".
ولد عبد العزيز الذي استولى على السلطة سنة 2008 في انقلاب عسكري على رئيس منتخب، وتم انتخابه رئيساً سنة 2009، ثم أعيد انتخابه لعهد ثانٍ سنة 2014، قبل أن تقف المعارضة والشارع بقوة وتُفشل محاولاته في خرق الدستور بالترشح للثالثة، يعتبر أول رئيس موريتاني يتم استدعاؤه للتحقيق معه في الجرائم الاقتصادية في عهده.
بعض رجاله يطالبون بمحاسبته
يذكر أن اللجنة البرلمانية تعاقدت مع مكاتب خبرات دولية حول الجوانب القانونية والفنية والمالية للصفقات المشبوهة التي يتهم بها ولد عبد العزيز الذي تخلى عنه معظم كبار مناصريه، بل قال عنه وزيره السابق، سيدي محمد ولد محم، في تدوينة له "حين تجلس على كرسي السلطة سنوات عدة، رافعاً أقوى شعارات الحرب على الفساد، وتخرج لتفاجئ الجميع بأنك أصبحت من أغنى أغنياء بلدك، وأنت الفقير الذي لم يمارس تجارة ولا عملاً مربحاً بشكل شرعي، فأنت اللصوصية في أوقح تجلياتها"
كما قال الدبلوماسي سيدي محمد ولد حننا، السفير السابق في عهد ولد عبد العزيز "نحن مطالبون بالوقوف وقفة رجل واحد في سبيل تحقيق المشروع الإصلاحي الذي تعتبر ورشة استرجاع الأموال المنهوبة ركيزته الأساسية".
وطالب الصغير ولد مبارك رئيس الوزراء الأسبق ورئيس المجلس الدستوري في عهد الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز بتطبيق العدالة في حق الأخير وباسترجاع الأموال المنهوبة.
وكان الرئيس الموريتاني السابق قد نفى في آخر مؤتمر صحافي عقده أي ضلوع له في نهب المال العام وأضاف "أنه غني لكنه يتحدى أي شخص يستطيع أن يثبت أنه أخذ فلساً واحداً من خزينة الدولة ".
الجدل القانوني حول محاكمة الرئيس
وأثار رفض الرئيس السابق المثول أمام لجنة التحقيق وإمكانية محاكمته جدلاً قانونياً واسعاً، وفي هذا الإطار، يقول المحامي الدولي لو كورمو، الذي يعمل أستاذاً للقانون في الجامعات الفرنسية "إذا اعتبر البرلمان أن القضايا المثارة في التقرير لا تمثل مخالفة قانونية فسيتم طي الملف نهائياً، أما إذا اعتبر أن ما تضمنه التقرير يعد مخالفات جنائية فستطرح قضية الهيئة القضائية المختصة، هل هي المحكمة السامية أم المحاكم العادية؟ بالنسبة إلى الرئيس السابق، فإن الأفعال التي يقوم بها خلال مزاولته مهامه تدخل ضمن اختصاصات المحكمة السامية خصوصاً إذا تعلق الأمر بالخيانة العظمى، مع أن بعض أفعاله غير المرتبطة بوظيفته كرئيس ستحال على المحاكم العادية، وبالنسبة إلى أعضاء الحكومة الذين يحتمل أن يكونوا قد ارتكبوا مخالفات أو جرائم فسيعرضون على المحاكم العادية لأن المحكمة السامية غير معنية بهم إلا في حالة مخالفات ذات طبيعة تمسّ أمن الدولة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الخيانة العظمى
ويقول عمار ولد حمادي، مستشار قانوني في الأمم المتحدة، "لا يحق للجنة البرلمانية استدعاء الرئيس السابق، لأن اللجنة شكل من أشكال الرقابة البرلمانية على الجهاز التنفيذي، وفي دستورنا تنحصر هذه الرقابة في الحكومة، فالحصانة التي يتمتع بها رئيس الجمهورية تجاه المساءلة السياسية من طرف البرلمان هي فعلاً مطلقة، تشمل كل أعماله أثناء ولايته، وهي أبدية، أي أنها تحميه من المساءلة السياسية حتى بعد مغادرة السلطة، والاستثناء الوحيد لذلك هو حالة الخيانة العظمى، ويرى أستاذ القانون الدستوري، الدكتور محمد الأمين داهي، أن محاكمة الرئيس ممكنة "وتدخل في صميم اختصاص محكمة العدل السامية".
وحتى أن بعض القانونيين يرون أن اللجنة بإمكانها أن تستخدم القوة العمومية لإرغام الرئيس السابق على المثول أمامها، واستشهدوا على ذلك بإرغام السيدة الأولى ختو بنت البخاري، حرم الرئيس السابق سيدي ولد الشيخ عبد الله، على المثول أمام لجنة التحقيق سنة 2008.
ويقول المحامي والوزير السابق محمد ولد أمين، "الذهاب بعزيز ورهطه نحو القضاء العادي أقرب للعدل، وهو تطبيق حرفي لنص القانون. فمن المعلوم أن المحكمة السامية لا معقب لحكمها، وهي في ذلك تشبه المحاكم العسكرية السيئة الصيت، كما أنها تؤدي الى تضييع حقوق الناس إذ لا تقبل أن يوجد فيها طرف مدني، أما في المحاكم العادية، فيجوز لمن اعتقلوا بشكاوى ملفقة مقاضاة الرئيس السابق وطلب تعويضات عن المظالم خلال حكمه، كما حصل مع المدون ولد مخيطير الذي اختطف وسجن في زنزانة انفرادية بعدما أطلقت المحاكم سراحه، وكحال الكاتبين الشيخ جدو وعبد الرحمن ودادي اللذين تعرضا لشكوى كيدية اجلستهما في غياهب السجن أشهراً طويلة، وفي المحاكم العادية، يمكن لضحايا الاحتيال المافياوي، في قضية الشيخ الرضا، أن يتحولوا إلى طرف مدني يطالب باسترداد حقوقه العينية إذا ثبت أن الأمر كان برعاية من الرئيس السابق".
بيع السنوسي
ويُتهم الرئيس محمد ولد عبد العزيز بأنه سلّم، سنة 2012، الرئيس السابق للمخابرات الليبية، عبد الله السنوسي، لليبيين ضمن صفقة غريبة لأن الرجل وصل إلى موريتانيا لاجئاً سياسياً، وكان من المفترض التعامل معه وفق قوانين اللجوء حتى ولو كان مطلوباً لدى المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
وكان رئيس مجلس الوزراء الليبي السابق، الراحل عبد الرحمن الكيب، قد كشف عن معلومات تفيد بأن الحكومة الليبية دفعت لموريتانيا 200 مليون دينار ليبي مقابل جلب عبد الله السنوسي.
ونقل النائب عبد الفتاح بورواق، في كتابه "أسرار تحت قبة البرلمان" عن رئيس مجلس الوزراء الليبي السابق عبد الرحمن الكيب، قوله "نعم، دفعت لهم 200 مليون دينار، وكنت مستعداً لأدفع أكثر".
ويقول الوزير السابق محمد ولد أمين "يجوز لعبد الله السنوسي وذويه أن يشكلوا طرفاً مدنياً في محاكمة الرئيس الموريتاني السابق".
جزيرة تيدرة
وكشفت لجنة التحقيق أن الإعلامي الموريتاني عبد الودود الجيلاني، الذي كان يعمل مستشاراً في سفارة قطر، صرح أمامها أن الرئاسة الموريتانية اقترحت على قطر، عبر سفارتها في نواكشوط، أخذ جزيرة تيدرة هدية من الرئيس الموريتاني لأمير البلاد، وأن قطر سلّمت الرئيس الموريتاني 10 ملايين دولار، وربط بعض المحللين بين هذا المبلغ وإهداء الجزيرة باعتباره ثمناً لها، إلا أن عبد الودود قال إن المبلغ المذكور داخل ضمن طلب وجهته موريتانيا لقطر لمواجهة تداعيات الجفاف، وقال عبد الودود الجيلاني في تصريح تناقلته الصحف الموريتانية إنه تحدث للجنة عن أمرين: الأول قضية الجزيرة، والثاني قضية شيك مساعدة من دولة قطر بمبلغ 10 ملايين دولار، وقال عبد الودود "بخصوص الجزيرة قلت إن الرئيس قام بعرضها على السفير، وكأي سفير عندما يعرض عليه رئيس الدولة المقيم فيها أي شيء عليه أن يُعلم حكومة دولته، وعندما قام بذلك لم يردوا عليه أبداً ما يعني أن المسألة ليست ذات أهمية عندهم، لكن في تلك الأثناء جاء الأستاذ إبراهيم ولد داداه، مستشار الرئيس الموريتاني، ليجتمع بالسفير موضحاً ما تزخر به الجزيرة من تنوع بيئي، واقترح عليه استئجار طائرة مروحية وإيفاد مصورين إلى الجزيرة. وبخصوص الشيك قلت إن الرسالة التي فيها الإبلاغ عن عرض الجزيرة، تضمنت طلب مساعدة لمواجهة آثار الجفاف في موريتانيا".
واتهمت اللجنة البرلمانية الرئيس الموريتاني السابق بأنه استولى على المبلغ المقدم من طرف القطريين، لكن مدير الديوان في عهده، إسلكو ولد إزيد بيه أكد أن "الرئيس ولد عبد العزيز أمر بإيداع الشيك المذكور في حساب بالخزينة العامة".
التاريخ والتنوع البيئي
تمثل هذه الجزيرة بالنسبة إلى الموريتانيين، كنزاً من التاريخ، فهي التي تأسس فيها، الرباط الذي سيكون منطلقاً لحركة المرابطين التي امتد نفوذها إلى الأندلس شمالاً والممالك الأفريقية جنوباً، وهي التي سيطر عليها الهولنديون والبرتغاليون والإسبان، في فترات مختلفة، لتكون نافذة لهم على الصحراء الكبرى وموقعاً إستراتيجياً بين أوروبا وأميركا الجنوبية، وقد بنوا فيها أبراجاً وموانئ تقليدية لاتزال آثارها قائمة.
ويوجد في حوض آركين، الذي تعتبر جزيرة تيدرة إحدى أرخبيلاته الكثيرة، أحد أقدم مجتمعات الصيادين في أفريقيا، وهو تجمع إيمراكن، كما أن حوض آركين عموماً، الواقع على مساحة 12 ألف كيلمتر مربع، يضم أكبر هجرة موسمية لأنواع الطيور النادرة كالبجع الأبيض والخطاف الملكي والبقويق الأشقر والنحام الوردي، وتضم أرخبيلات الحوض أصنافاً مختلفة من الحيوانات المهددة بالانقراض، كالغزال والسلاحف البحرية الخضراء وأنواع من الدلافين.
هذا التاريخ الدفين في حوض آركين، وهذا التنوع البيئي الرائع، هما بالضبط ما جعل الموريتانيين يستاؤون جداً من فرضية بيع أو إهداء جزيرة تيدرة.