على الرغم من تحولها إلى خناقة فصلية، تلوح في الأفق مع نسائم الربيع، وتحتدم بتأجج درجات حرارة الصيف وتسير في اتجاه الساحل الشمالي مع جحافل "شعب الساحل" ومنها ما يصاحب الهاربين إلى ساحل البحر الأحمر حيث هواء الغردقة الجاف وجو مرسى علم الهادئ، أو يلازم المشرقيين وهم المتجهون صوب سيناء وشواطئها المتفردة، إلا أن احتدامها هذا العام يتزامن ونقاش وتنقيب مصري متصاعد في مفهوم الحريات المغدورة ومنظومة المرأة المتنازع عليها بين مصر التي كانت ومصر التي أصبحت.
خناقة كل عام
أصبحت خناقة كل عام الصيفية هي ما يحق وما لا يحق للمرأة المصرية أن ترتديه في الشواطئ والمسابح. الخناقة المختزلة في "بيكيني أم بوركيني" تتعامل معها الغالبية باعتبارها خناقة ملابس، لكنها أعمق من ذلك بكثير. خناقة كل عام تكشف التوجهات المتناقضة والقناعات المتضاربة التي يموج بها المجتمع المصري منذ سبعينيات القرن الماضي، لكنها تتزامن هذا العام وحراكاً مجتمعياً أقرب إلى الاحتكاك بين استعادة ليبرالية الستينيات المدنية والتمسك بتلابيب محافظة الثمانينيات الدينية.
لا يملكون من أمر هرموناتهم شيئاً
المؤسسات الدينية الرسمية وجدت نفسها مطالبة بالتدخل في احتقان هذا العام المتأجج بين هؤلاء وأولئك. لكن يبدو أنها قررت عدم الضلوع بشكل مباشر، ويكفيها الخطوة التي اعتبرها البعض "تاريخية" و"غير مسبوقة" التي اتخذتها قبل أيام ألا وهي دحض تبرير التحرش بما ترتديه المتحرش بها، وهو التبرير الذي تمكن من العديد من المفاصل الدينية في مصر على مدار سنوات طويلة مضت. مؤسسة الأزهر الشريف خرجت عن صمتها الطويل قبل أيام لتعلن أنه "لا يجب الصمت أو غض الطرف عن هذه الجريمة (التحرش) مهما كانت الأسباب"، وأن "ملابس المرأة أياً كانت ليست مبرراً للاعتداء على خصوصيتها وحريتها وكرامتها"، وأن "التحرش إشارة أو لفظاً أو فعلاً جريمة قانونية وإثم شرعي وانحراف سلوكي، وتجريم الفعل والفاعل يجب أن يكون مطلقاً ومجرداً من أي شرط أو سياق". يشار إلى أن العقود الماضية شهدت تكثيفاً لخطاب ديني من قبل البعض ممن برزوا على ساحة التفسير والخطابة والوعظ الديني (وبعضهم لا يرتبط بشكل مباشر بالمؤسسات الدينية الرسمية) يربط بين ما ترتديه الإناث وما يتعرضن له من تحرش من ذكور لا يملكون من أمر هرموناتهم شيئاً.
تصوير المشادة
الحادثة التي أجّجت صراع البيكيني من أجل البقاء، ومكافحة البوركيني من أجل الاعتلاء هذه الأيام، دارت رحاها في أحد منتجعات الساحل الشمالي المطل على البحر الأبيض المتوسط، وتحديداً حين فوجئت سيدة كانت في المسبح مرتدية ما يسمى "المايوه الشرعي" أو "البوركيني" بأخرى تقف عند حافة المسبح وتطالبها بالخروح فوراً، وهو ما أدى إلى نشوب معركة كلامية متعددة الأطراف. وبالطبع، تم تصوير ما جرى بهاتف محمول وعرف الفيديو طريقه المعتاد إلى مواقع التواصل الاجتماعي حيث منصات الهبد والرزع العتيدة، ومنها إلى شاشات التلفزيون وصفحات الجرائد والمواقع ليعاود صراع البوركيني والبيكيني التأجج كعادته الصيفية.
لكن العادة الصيفية أعمق من ذلك بكثير. وهي أوسع وأبعد من مجرد حقّ المحجبة في الاستمتاع بمياه البحر والمسبح شأنها شأن تمتع غير المحجبة التي ترتدي لباس بحر عادية. كما أنها تعاود كشف الغطاء عما يصول ويجول في المجتمع المصري من صراعات طبقية وأيدويولجية منذ سبعينيات القرن الماضي. بل إن اعتبار "العادة الصيفية" مشكلة رأي ديني أو موقف الجهات المسؤولة عن السياحة والشواطئ تجاه مواصفات لباس البحر هو الاختزال القاصر بعينه.
المايوه الشرعي
يشار إلى أن أمين الفتوى ومدير إدارة الفتاوى الهاتفية في دار الإفتاء المصرية محمود شلبي "حدد ضوابط ارتداء المايوه الشرعي" قبل فترة على الصفحة الرسمية للدار وذلك عبر فيديو عنوانه "المايوه بين الحلال والحرام"، وجاء فيه أن الشرع يطالب المرأة بالالتزام بزيّ معين يتمثل في ستر عورتها أمام الرجل من غير محارمها، موضحاً أن العورة هي "جميع البدن ماعدا الوجه والكفين".
ولأن الاختزال القاصر لا يقف عند حد، فإن هذه المعايير تضع النساء والفتيات اللاتي لا يرتدين "البوركيني" جميعاً في خانة "البيكيني". تقول همسة نصري (40 سنة) وهي ممن ينقلون محل إقامتهم طوال أشهر الصيف إلى "مارينا" أحد منتجعات الساحل الشمالي التي ظلت "انتقائية" وقاصرة على طبقات بعينها من دون غيرها حتى سنوات قريبة إنها معترضة شكلاً وموضوعاً على هزل "البوركيني والبيكيني". تقول: "في بداية ظهور البوركيني كنت مؤيدة تماماً لحق السيدة المحجبة في الاستمتاع بالبحر والمسبح. لكن تبين لي خلال السنوات الماضية أن المسألة أبعد من ذلك بكثير. بعد ما تم فتح مارينا للجميع تحول البوركيني وأغلب من يرتدينه إلى واعظات بالقول حيناً وبالنظرات أحياناً التي يوجهنها لغير المحجبات وكأنهنّ وصيات عليهنّ. وتحول الوضع إلى شعور بعدم الراحة يجعل المحجبة تنظر إلى غير المحجبة باستعلاء حيناً ولوم حيناً آخر، وغير المحجبة تبادلها النظرات باستعلاء مضاد ولوم على هذا الشعور بعدم الراحة. ولو كان الأمر مقتصراً على الحرية التي لا تعتدي على آخرين، لهان الوضع. أعتقد أن هناك توجهاً مسكوتاً عنه لجعل مثل هذه الملابس "يونيفورم" في الشواطئ اعتقاداً أنهم بذلك يعلون كلمة الدين ويبسطون هيمنتهم المنبسطة أصلاً في المجتمع وهي هيمنة يشعر بها الجميع سواء بسعادة أو بغضب ولكن كليهما مسكوت عنه".
المسكوت عنه
"المسكوت عنه في المعركة حالياً هو أننا نرى ونتابع من يريد تغيير السلوك، ليس من باب الحرية، ولكن لفرض النمط الذى يعتنقه" بحسب رأي الناقد الفني طارق الشناوي، مؤكداً أن "هذا ليس جديداً على الحياة الاجتماعية في مصر"، مشيراً إلى أن الشيخ الأزهرى محمود أبوالعيون كان يطارد بعصاه من ترتدي المايوه على الشواطئ المصرية في ثلاثينيات القرن الماضي.
لكن يبدو أن الاختلاف الحقيقي بات في تركيبة المجتمع. فهذا التصرف من الشيخ الأزهري في الثلاثينيات قوبل برد غاضب ورافض من المجتمع وتحول إلى مادة للتندر والسخرية. أما اليوم، فأغلب الظن أن قطاعات عريضة في المجتمع كانت ستصفق للشيخ وعصاه أو على الأقل تبرر ما يفعل.
ويقول الشناوي "نظرياً يبدو للوهلة الأولى أن القضية محسومة، وأن من يحول دون أن تنزل البحر أو حمام السباحة من ترتدي البوركيني يمارس تنمراً. لكنهم عادة يتسللون من باب حرية الاختيار المكفولة للناس، ثم ينتقلون بعدها للمربع رقم اثنين، وهو فرض الرأي على الجميع، مثلما شاهدنا الحجاب وهو يحقق معدلات انتشار واسعة منذ السبعينيات". ويدعو الشناوي إلى تذكر الستينيات وقت كان ارتداء المرأة الحجاب هو الاستثناء، قبل أن يصبح عدم ارتدائه هو الاستثناء. ويشير الشناوي إلى أنه بمرور الزمن، صار الحجاب فرزاً طائفياً. وبدأ البعض في التفرقة بين أنواع الحجاب التي صار بعضها شرعياً، والبعض الآخر يحض على الرذيلة.
الرذيلة الحقيقية
"الرذيلة الحقيقية هي منع إنسان من حق يمارسه آخرون بسبب شكل أو نوع ملابسه. من حق المحجبة أن تستمتع بالشاطئ طالما نوعية ملابسها لا تسبب ضرراً صحياً للآخرين. أما أن نصنف الناس في فئات بناء على نوع الملابس فنمنع هذا ونسمح لذاك، وننعت هؤلاء بالرقي وأولئك بالتدني، سواء الاجتماعي أو الاقتصادي أو السلوكي لأن ملابسهنّ لا تعجبنا، فهذا مرفوض" بحسب ما تقول هبة محمد (28 سنة) التي تدافع بشدة عن حق المحجبات في نزول البحر والمسابح على الرغم من أنها غير محجبة. تضحك وتقول: "اعتراض آخر أسجله وهو عرض المشكلة وكأنها حرب بين "بوركيني" و"بيكيني"، مع العلم أن كثيرات غير محجبات ولا يرتدين البيكيني.
وفي السياق نفسه، تدافع الكاتبة والمدافعة عن حقوق المرأة والمعروفة بتوجهاتها المعارضة لتيارات الإسلام السياسي سحر الجعارة عن حق المرأة في البوركيني. تقول إنه (البوركيني) "كشف عن عمق العنف الذي يمارس ضد الحريات العامة، وكأنه الابن الشرعي لمشاعر عداء سياسي واجتماعي تفصل عالمين، كليهما يرفع شعارات براقة عن الحياة لكنه ضمنياً يزدري الآخر ويحتقر ملابسه". لكن الجعارة تعود وتقول إن "الواقع يؤكد أننا نحكم على القيم بمعايير مختلفة، وإن ما نطبقه هو سياسة "لنا غفور رحيم ولكم شديد العقاب". وعلى الرغم من أن سنّة الحياة هي الاختلاف، فإن الاختلاف في المظهر والسلوك والمستوى الثقافي والاجتماعي والتصنيف الطبقي أصبح إدانة للآخر". وتضيف الجعارة أن غير المحجبات حالياً يعانين الاضطهاد والنظرة الدونية، مشيرة إلى أن "أفعل التفضيل لا مجال لها بين مواطنين متساوين وأسوياء".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
احتكار الحريات
وبينما المعركة مستعرة لدرجة تنافس ملفات أمنية هنا وأخرى مائية هناك وثالثة تتعلق بالوباء، اختار البعض أن ينؤوا بأنفسهم بعيداً من ثنائية البيكيني والبوركيني لكن من دون الابتعاد عن الترند الجدلي. "أين حق التانكيني؟" صفحة تخلط هزل الجدال بجد اختزال ملابس البحر في طرفي نقيض. مقولة مأثورة لم تقل يتم تداولها بين البعض مفادها بأن "الحرية فقط لمن يؤمن بها. إمضاء معارضي البوركيني (في إشارة إلى جنوح المنتمين للتيار الديني لاحتكار الحريات على اعتبار أنهم الممثل الشرعي للشرع). اقتراح بابتكار "نقابكيني" للمنقبات حتى يكون الشاطئ رمزاً للتعددية. ولا تخفت أصوات من يرون صاحبة البيكيني والمختبئة في البوركيني كلتيهما في النار لأن المرأة لا تخرج من بيتها. وتبقى هناك مجموعة متضررة تصب غضبها على جماعة البوركيني وتوجه حنقها لجماعة البيكني إذ إنها تتابع المباراة من على كنباتها من دون أن تطأ أقدامها أرض البحر أو حافة المسبح.
تجدر الإشارة إلى أن صراع البيكيني والبوركيني المحموم شهد تأججاً مشابهاً في عام 2016 وقت دورة الألعاب الأولمبية في ريو دي جانيرو في أعقاب بث وقائع مباراة الكرة الشاطئية بين منتخبي مصر وألمانيا، والتي تحولت بقدرة قادر إلى مباراة بوركيني في مواجهة بيكيني، في إشارة إلى ما ارتدته لاعبات مصريات في مقابل الألمانيات.