هي مكرمة مبجلة منذ بدء البشرية، لكنْ ظهرت الحاجة إلى إشهار هذا التكريم والتبجيل، فحُدد لها يوماً للعيد. لكن الأحداث الاجتماعية والتطورات السياسية لم تتركها تنعم كثيراً بعيدها، فقرر البعض بين ليلة وضحاها أن تـُحرِّمها، وأصدرت قراراً شديد اللهجة ينص على أن المحتفِل والمحتفلَة بها كلاهما في النار. ولحسن حظ الخليقة وحسن سير وسلوك الأمهات، عاد الاحتفال واستُئنف الاحتفاء ولكن بكثير من التسليع لا يخلو من العشق والمحبة والاحترام والاعتراف بأن الأم هي "ست الحبايب".
احتفالات عيد الأم
"دوس نجمة شباك ثم ثلاث ثمانيات لتسعد كل الأمهات وتجعل من "ست الحبايب يا حبيبة" كول تونك"!
نغمة الهاتف المحمول، أو "الكول تون"، سواء عندما يدق معلناً تلقي مكالمة، أو لإمتاع المتصل بإسماعه أغنية من اختيارك شاء أو أبى، حوّلت أثير مصر هذه الأيام احتفاء بالأمهات وانتصاراً للأعياد وإبلاغاً بأن عيد "ست الحبايب" دق الباب.
أبواب عيد الأم في مصر لا أول لها أو آخر. فهناك باب رنات المحمول و"بيزنس" "سمعها أغنية عيد الأم في عيدها". وهناك باب صراع القنوات الفضائية معلنة أن "إمبراطورية ميم" وراءكم، و"التلميذة" أمامكم، و"الجراج" و"بالوالدين إحساناً" لمن يهوى البؤس والشقاء، و"الحفيد" وأم العروسة" لمن يميل إلى البهجة طيلة النصف الثاني من مارس/ آذار. وهناك كذلك باب اجترار الأحزان والانعزال وراء الأبواب في مثل هذا الوقت من كل عام حزناً على الأمهات الراحلات. وهناك تكليفات من الدولة بتكريم أمهات شهداء، وتبجيل زوجات محاربين، والبحث عن نماذج لا تخرج في الأغلب عن تنجيم أمهات حولت البؤس نجاحاً وغزلن من الشقاء إنجازاً. والأبواب لا تتوقف عند أحد ولا تستثني أحداً.
هدايا الأم
أحد أبرز مقترحات هدايا عيد الأم المصري الموافق يوم 21 مارس/ آذار الحالي هو جهاز التكييف حيث "عشان خاطر ماما التكييف بـ5995 جنيهاً مصرياً فقط لا غير". لكن "ماما" في عام 2019 ربما يكون لديها ميلاً مختلفاً أو خياراً منفرداً حيث المحمول على قمة المرغوب وخواصه من كاميرا وسعة استيعابية ونقاء صوت وجودة صورة يتسيد رغبات "ست الحبايب".
بابتسامة عريضة تخلو من الصفاء وأحضان متتالية تثير الشكوك، يبدأ أمجد محمد، 25 عاماً، بمقدمة لا بد منها. "لو كان الأمر بيدي لأحضرت لها لبن العصفور وذيل الكتكوت". مقدمته الهزلية تبعها لب الموضوع. "ماما" طلبت هاتفاً محمولاً ثمنه يتجاوز الـ20 ألف جنيه. ولأن "ماما" ليست على دراية كاملة بسوق المحمول وسوء الأوضاع الاقتصادية نظراً لالتزامها البيت أغلب الوقت، وقيام آخرين بتلبية احتياجاتها، فهي تتخيل أن هذا الشيء الذي يمكِّنها من الاتصال بالابنة في كندا، والتواصل مع ابنة الخال في الكويت، والحصول على وصفات الأطعمة بينما تطبخ عبر "يوتيوب" ومشاهدة ما فاتها من فيديوهات ضاحكة وأدعية رمضان يتجاوز ثمن راتب أمجد لأربعة أشهر متتالية.
للعيد حكاية
توالي مقترحات الهدايا في عيد الأم في عام 2019 يعكس تنويعات لا أول لها أو آخر، لكنه يرسخ مبدأ تسليع جانب معتبر من عيد "ست الحبايب" وهو ما يقف على طرف نقيض مع الدعوة الأصلية للاحتفال بعيد الأم والتي أطلقها الكاتب الكبير الراحل علي أمين.
وفي كتاب توأمه مصطفى أمين "أمريكا الضاحكة" كتب في عام 1943 أن "من الأعياد الجميلة في أمريكا يوم الأم ويوم الأب. وفي هذين اليومين لا تعطل دواوين الحكومة ولا تقفل المدارس أبوابها، ولا تطلق المدافع، وإنما اختير للأم يوماً يذكرها فيها أبناؤها فيقدم كل ولد لأمه هدية صغيرة، مهما كانت تافهة فهي دليل على أنه يحس نحوها بعاطفة الحب والتقدير فتشعر الأم التي تشقى لأولادها أن لها يوماً".
ورغم أن الفكرة لم تلق رواجاً في حينها، لكنها انتعشت مجدداً بعد عشر سنوات حين أتت سيدة إلى مكتب مصطفى وعلي أمين في "أخبار اليوم" وحكت عن مأساتها، حيث توفي زوجها، وتفرغت لتربية الأبناء وحدها، وبعدما أنهوا تعليمهم والتحقوا بوظائف تركوها وحيدة. وبعدما كتب التوأم المصري الأشهر في عالم الصحافة عن قصة السيدة، شارك القراء في تقييم الفكرة، ووافقت الأغلبية واعترضت الأقلية، لأسباب يدور أغلبها حول رفض ما هو قادم من بلاد الفرنجة. ثم شارك القراء مجدداً فاختاروا اليوم، ألا وهو بداية شهر الربيع من كل عام، ليكون رمزاً للصفاء والنقاء والبهجة.
بين التكريم والتحريم
بهجة عيد الاحتفال بعيد الأم في مصر مرت بمراحل كثيرة وتغيرات عديدة. فمن طفرة كبرى تحول معها العيد إلى مناسبة قومية واحتفالية لا تستثني أحداً، على اعتبار أن الجميع أنجبته أمهات، وذلك في أواخر الخمسينيات وطيلة الستينيات وأغلب السبعينيات، إلى انتكاسة عظمى بدأت في أواخر السبعينيات وانتعشت في الثمانينيات والتسعينيات، وبدأت تخفت نسبياً في السنوات القليلة الماضية ألا وهي اعتبار الاحتفال بالأم حرام، وتخصيص يوم للاحتفاء بها مكروه، بل وصل البعض إلى حد تكفير المحتفلين.
ورد في "إذاعة طريق الإسلام"، المفرغ محتواها كتابة على أحد المواقع العنكبوتية، أنه "ينسب لهذا الرجل (علي أمين) نقل بدعة عيد الأم من الغرب الكافر الملحد إلى ديار المسلمين ناسياً أو جاهلاً"، مؤكدين أن "تخصيص ذلك اليوم أو العيد بدعة منكرة، ومن يفعلها آثم". ويمعن المحذرون بقولهم "الحذر الحذر أن تحتفلوا بهذا اليوم أو تشاركوا في هذه البدعة بأي شكل، فتكونوا مبتدعين متشبهين بالقوم الكافرين".
أما المنتظرون في محال بيع الهواتف المحمولة ليستبدلوا نقاطاً اكتسبوها ويتقدموا بأموال جمعوها من الإخوة والأخوات ويسددوا قيمة هاتف محمول جديد لماما، فهم يمثلون عودة محمودة إلى الاحتفاء بالأم في عيدها دون وساوس قهرية أو هلاوس فكرية.
نحن لا نزرع الشوك
لكن في الاحتفاء بالأم في عيدها في مصر، لا سيما من منظور الإعلام، تطل فكرة تسييد البؤس والشقاء باعتبارهما وحدهما الجديرين بالتكريم، واعتبار الأم التي لم تتضور جوعاً أو تتجرع فقراً أو تتألم حزناً طيلة حياتها أمّاً غير جديرة بالاحتفاء.
يقول معز سعيد، 25 عاماً، معد برامج تلفزيونية، إنه مكلف بالتنقيب عن أكثر حكايات الأمهات بؤساً منذ أواخر شهر فبراير/ شباط فبراير الماضي. وبسؤاله عن سبب التركيز على البؤس دون الفرحة، رد متعجباً: "وما فائدة الاحتفال بأم لم تطفح الدم من أجل أطفالها؟"
وسواء "طفحت الأم الدم" (أي عانت الأمرين) أم لم تفعل؟، فإن واقع الحال يشير إلى أن الـ"500 دقيقة مجانية والجايجا بايت بنصف الثمن" وربما جهاز تكييف لأيام الصيف القائظة أو مدفأة لأيام الشتاء الباردة، وبالطبع محمول يقرب البعيد عبر التواصل التكنولوجي ويبعد القريب من خلال الانعزال في البالونة الافتراضية جميعها هدايا تحبها الأمهات المصريات في عام 2019.
وفي عام 2019 تمضي مصر قدماً مكرمة أمهاتها "المثاليات" متبعة معايير الشقاء واستبعاد القصص المبهجة والنماذج المفرحة. "أم البحيرة" المثالية ربت أبناءها بعد وفاة زوجها وخرجت للمجتمع مهندساً وطبيباً ومحاسباً. و"أم الأقصر" المثالية لعبت دور الأب والأم بعد وفاة زوجها متأثراً بالسرطان. و"أم الإسكندرية" المثالية تخشى على مصير ابنها المعاق ذهنياً بعد رحيلها عن الدنيا. و"أم الإسماعيلية" المثالية حرمت نفسها من الطعام لتطعم أبناءها"، وهلم جرا.
الأم العصرية
ملاحظ أيضاً أنه جارٍ حالياً التعبير عن الاعتراض والجهر بالانتقاد من قبل أمهات مصريات غير مطابقات لمواصفات البؤس والشقاء الكلاسيكية. تقول طبيبة التجميل الدكتورة حنان الكحكي أنه "حان وقت الخروج من الصور النمطية حيث حبس المصريين الأم في سيدة تبدو عليها آثار تقدم العمر واضحة، وترتدي ملابس رثة، ووزنها زائد عن الحد. لكن مصر عامرة كذلك بأمهات رشيقات أنيقات ومحتفظات بمظهر معقول رغم التقدم في العمر".
أمهات مصر يتغيرن وبعضهن يثرن على القوالب النمطية، وكذلك هداياهن تتطور وتزيد من حيث الجيجا، وتتشكل بحسب معايير الألفية الثالثة. ويظل عيد الأم في مصر مؤشراً على المجتمع وما دار ويدور فيه. تُكرم فيه الأمهات، ويحتفى خلاله بالجدات، ويُحتفل فيه أيضاً بالأمهات دون شرط الإنجاب. ويقف شاهد عيان على موجات التطرف والتشدد، وكذلك على بوادر استعادة المجتمع عافيته ورجاحة عقله. لكنه أيضا لا يقاومن كثيراً تسليع المناسبات وتعظيم الأرباح من كل تفصيلة كبيرة أو صغيرة في حياة الأمهات، لا سيما ذلك الجهاز الصغير حامل رنات "ست الحبايب" اتصالاً وتواصلاً سواء كان بكاميرا أو دونها.