هي بالنسبة إلى كثر من شرفاء الفرنسيين، بالتحديد من المقاومين الذين كان عليهم خلال الحرب العالمية الثانية أن يجابهوا عدويين: النازيين محتلّي البلاد، والمتعاونين الداخليين مع العدو، وكان من أحقر أولئك المتعاونين فنانون رأوا في محتلّ بلادهم خلاصاً ما، هي إذاً صورة العار، بل واحدة من صور عار كثيرة تمثل "زحف" المبدعين الخونة الذين كان غوبلز يستدعيهم بالقطار إلى برلين كي يتعرّف عليهم ويمتدح أعمالهم، متعمداً أن يُصوَّروا وهم ذاهبون وهم عائدون ليُري العالم كم أن المانيا تتحكّم بفرنسا ومبدعيها.
الصورة التي نشير إليها هنا تمثل عدداً من أبرز رسامي تيار "الضواري" في محطة القطار الباريسية ينطلقون في رحلة الحج إلى أحضان مغتصب بلادهم ومن بينهم فلامينك وفان دونغن و.... أندريه ديران. ولئن كان الفرنسيون الشرفاء لم يبالوا كثيراً بالأوّلين باعتبارهما هولندي وبلجيكي، فإن ديران أحزنهم لأنه فرنسي وها هو في طريقه للاحتفال بانتصار العدو على بلاده، وها هي الصورة شاهدة لتذكّرهم حتى حين رحل ديران عن عالمنا بخيانته هو الذي كان حين "اقترفها" قد تجاوز الستين من عمره وفاقت شهرته كثراً من زملائه ولم يكن في حاجة إلى ذلك "المجد" الإضافي، مجد الخيانة.
المجد الحقيقي قبل ذلك
والحال أن المجد الحقيقي كان قد غمر ديران منذ وقت مبكر، منذ كان في أواسط عشرينياته وكان قد اكتشف أعمال فان غوغ منذ فترة فانبهر بها، ومن هنا حين قام بين 1905 – 1906 برحلة إلى لندن راح في الشوارع وعلى ضفة نهر التايمز وفي كل مكان سحره، يرسم لوحات من الصعب القول إنّ فرنسياً مثله عرف كيف يخلّد بمثلها نظرته إلى عاصمة الإنجليز، نظرة تتناقض تماماً مع تلك التي كان ألقاها مواطنه دومييه قبل ذلك بسنوات، مفضّلاً أن يلتقط مشاهد طالعة من بؤس روايات ديكنز المصوِّرة بؤس لندن وعالم حثالتها.
مع ديران، تحوّلت لندن إلى مدينة ملوّنة تبدو أشبه بالجنوب الفرنسي. وحسبنا مثلاً أن نتأمل واحدة من لوحاته "اللندنية" لتلك المرحلة كي نتيقّن من ذلك: "حوض نهر التايمز" العائدة إلى عام 1906 والمعلّقة في "متحف تيت للفن الحديث" في لندن. فديران الذي كان يتحدث عن الألوان بوصفها "أصابع ديناميت" تبعاً لنظريات جماعة "الضواري" التي كان ينتمي إليها، جعل الألوان في هذه اللوحة احتفالاً بالحياة. ومن الواضح هنا أن اللوحة من ناحية ثانية تطبّق روحية الفن الجديد التي كانت ترفض كل توصيف للمشهد، ملغيةً كذلك جمودية المشهد، مضفيةً عليه حركية "جوّانية" مدهشة. واللافت أن ديران عاد في هذه اللوحة بالذات إلى موضوع كان سبق لمانيه، أستاذ الانطباعية الكبير أن عالجه، لكن الفارق الكبير هنا كمن في التلوين، ذلك التلوين الصاخب، الاستفزازي الذي حوّل المنظر اللندني إلى منظر مختلف تماماً. بيد أن ذلك لم يكن كل ما في الأمر. فهناك أيضاً من الروح "الضارية" كذلك، تكوين المشهد بطريقة مناقضة لكل تكوين اشتغل عليه مانيه والانطباعيون. مع ديران، تحوّل الكادر ذاته إلى نوع من كائن حيّ متحرّك، تتقاطع فيه مقدمة المشهد مع خلفيته بشكل يبدو وكأنه يمهّد لظهور السينما وديناميتها. والحقيقة أن هذا المزج لدى الرسام بين فان غوغ و"الضواري" هو العنصر الأساس الذي بنى له ذلك المجد الذي لم يكن في حاجة إلى الارتماء في الأحضان النازية كي يعزّزه.
سوء طالع حتى النهاية
مهما يكن، لو لم يمت هنري ماتيس في خريف 1954 لكان بالإمكان اعتبار رحيل أندريه ديران، في سبتمبر (أيلول) من ذلك العام، خسارة فنية كبيرة حلّت بفرنسا. ولكن، حتى بموته، كان ديران قليل الحظ، ومن نصيبه أن يحلّ دائماً في المكان الثاني، أبداً في المكان الأول. ومع هذا إن نسينا السياسة والخيانة، يمكننا أن نقول إن ديران كان واحداً من سَحَرَة التلوين في الفن الفرنسي الحديث، وألوانه لم تكن لتقلّ جمالاً عن ألوان ماتيس، كما أن أشكاله لم تكن لتقلّ قوة عن أشكال بيكاسو. وفي مجال انتمائه لفترة طويلة من الزمن إلى تيار "الضواري"، لم يكن بأي حال من الأحوال أقلّ قوة في ذلك التعبير، من فلامينك، شريكه الأساسي في ذلك التيار كما في الخيانة.
فما العمل والنقد وضعه، على الدوام، ثانياً وثالثاً بعد ماتيس وبيكاسو، بخاصة بعد فلامنك؟ حسناً، حين رحل ديران مات كسير القلب، غير أنّ تاريخ الفن، سرعان ما عاد وأفرد له مكانة طيبة، وبدأت لوحاته تُشاهَد وتُدرَّس وتُعرض وتُقيَّم مادياً، بذاتها، وبصرف النظر عن المرجعية التي تنتمي إليها: ضارية كانت أو تكعيبية، أو مجرد ساحرة في تلوينيتها. وهكذا، مع مرور الوقت بدأ كثيرون يدركون بأنه إذا كان أندريه ديران يدين لأحد في قوته التعبيرية وفي جمال ألوانه وأشكاله، فإنه إنما يدين أولاً وأخيراً إلى المعلم الأكبر ومبتدع حداثة القرن العشرين الحقيقية: فنسان فان غوغ.
تأثيرات لا تنتهي
ديران الذي وُلد في شاتو بالقرب من باريس في 1880، كان في الحادية والعشرين من عمره حين قُيِّض له أن يشاهد معرضاً أكبر للوحات فان غوغ في غاليري برنهايم في 1901، فكان الانبهار الفوري والوقوع تحت سحر صاحب "صورة الدكتور غاشيه" و"التوليب" وغيرها. ومع هذا، فإن لوحاته التي حقّقها خلال السنوات القليلة التالية نهلت من مواضيع وألوان فان غوغ، كما نهلت من غيره، إذ وقع صاحبنا في الوقت ذاته تحت تأثير غوغان كما تحت تأثير تيار الانطباعية الجديدة. صحيح أنّ لوحاته لتلك الفترة كانت انتقائية بعض الشيء من مصادرها، غير أنها مع ذلك عرفت كيف تلفت الأنظار خلال معرض الخريف لعام 1905، حين عرض ديران لوحاته في "قفص الضواري" إلى جانب لوحات صديقَيْه فلامنك وماتيس.
بعد عام 1905، تعمّقت علاقة ديران أكثر وأكثر بماتيس وفلامنك، في الوقت الذي راح يكتشف سبله، عبر لوحات رسمها في شاتو، ولكن كذلك في كوليور بالجنوب الفرنسي ثم بخاصة في لندن... وفي كل تلك اللوحات، راح ديران يصوّر مناظر طبيعية يسود فيها التلوين الخالص بكل صفائه ونقائه، غير أن مرحلته الصافية تلك لم تستمر لديه سوى أعوام خمسة أخرى وقع بعدها تحت تأثير التكعيبية، وكان ذلك حين تعرّف عبر التاجر كاهنفيلر على كل من بيكاسو وبراك، كما تعرّف على فان دونغن، ووقع من جديد تحت تأثير سيزان، فإذا بلوحاته التالية تضحي مزيجاً من ذلك كله، وإذا به يتخلّى بشكل شبه نهائي عن تيار "الضواري".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يوم سئم من تأثير الآخرين
أما في 1920، فإنه توقف للحظة وقد بدا عليه أنه قد سئم تلك المؤثرات كلها، فعاوده حنين قديم إلى شيء من النزعة الطبيعية، وإلى الرسم على الطريقة شبه الكلاسيكية، فتوجّه إلى الجنوب الفرنسي سعياً وراء الشمس وصفاء الألوان وقد آلى على نفسه أن يمارس فنه بشكل انتقائي يترك فيه مجالاً واسعاً للرسم تبعاً للتقاليد المعهودة في تيارات الرسم الفرنسي، وضد كل التيارات الطليعية.
في 1928، حقّق دىران، على أي حال، انتصاراً لا بأس به حين فازت لوحته "الصيد" بجائزة كارنيجي الأميركية، وبعد ثلاثة أعوام أقامت غاليري "بول غيوم" واحداً من أكبر المعارض التي كُرِّست لمجمل أعمال ديران، ولكن، هذه المرة أيضاً كان سوء الطالع من نصيبه. ففي مواجهة معرضه الذي كان قد راهن عليه طويلاً، عرفت باريس معرضاً هائلاً تحت اسم "تجريد – إبداع"، حدّد في عاصمة الفن العالمي توجّهات إبداعية جديدة، من علاماتها كاندينسكي وموندريان وليجيه وهانز آرب. فكان هذا المعرض الجديد حديث الناس والأوساط الفنية. أما انتقائية اندريه ديران، فقد بدت وكأنها أصبحت في مهبّ النسيان.
طبعاً واصل ديران الرسم بعد ذلك، وعاش ثلاثة وعشرين عاماً أخرى، غير أنه لم يعرف المجد الذي كان يسعى إليه طوال حياته، بل ظلّ اسمه مرتبطاً بآخرين، إذ بقي يُعرف كصديق لماتيس وزميل لفلامنيك. فقط موته أنقذه من تلك الوضعية، إذ بعد سنوات قليلة من رحيله أُعيد إليه اعتباره، وبدأ النقّاد والمؤرخون والهواة بالحديث عنه بصيغة المفرد، لا بصيغة الجمع.