ظلّ التأرجح بين الصعود والانحدار سمة متلازمة للعلاقات السودانية الليبية خلال الأعوام الـ50 الماضية. فالاتهامات المتبادلة بين البلدين الجارين في فترة حكم الرئيس الليبي السابق معمر القذافي الذي عاصر ثلاث حكومات سودانية منها حكومتان عسكريتان تتوسّطهما ديمقراطية قصيرة، لا تزال قائمة، على الرغم من تغيّر المشهد بعد مقتل القذافي في أكتوبر (تشرين الأول) 2011، ودخول ليبيا في صراع ألقى بظلاله على الحدود الليبية السودانية الممتدة لنحو 383 كيلومتراً، التي باتت مسرحاً لعمليات التهريب وتجارة البشر وغيرها من الممارسات الإجرامية.
يعزو متخصصون في الشأن الأفريقي أسباب توتّر العلاقات بين السودان وليبيا إلى التداخلات القبلية بين البلدين، وانتشار أمراء الحرب ومرتزقة السلاح على طول الحدود بينهما، مستغلّين حالات الفقر المتفشّية وسط الشباب. ويؤكدون أن الحلّ يكمن في إيجاد صيغ للتعاون التجاري، والاهتمام بأعمال التنمية، فضلاً عن تكوين جيوش مشتركة لصدّ أي أعمال تهدّد السلم والاستقرار في البلدين.
تداخل قبلي
ينظر أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في الجامعات السودانية الدكتور الرشيد محمد إبراهيم، إلى الصراع الليبي وتقاطعاته مع المشهد السوداني بقوله "تُعدُّ ليبيا من دول الجوار القريب بالنسبة إلى السودان، فالأحداث الدائرة الآن هناك، أثرت في بلادنا من ثلاث نواحٍ سياسية واقتصادية وعسكرية أمنية، في حين أن الارتباط الأمني بين الدولتين سبق حكم القذافي (1969-2011)، بحكم تداخل القبائل المشتركة على الحدود بينهما. أما بالنسبة إلى الوجود السوداني في هذا الصراع، فهو أمر لا ينكره أحد، لكنه غير مؤسسي، إذ فرضته ظروف كثيرة من أبرزها التداخل القبلي بين السودان وليبيا وتشاد، فمثلاً هناك قبائل الحميمات ذات جذور مشتركة في كل من السودان وتشاد، لها ارتباط مع قبيلة المقارحة الليبية وبعض الأسر الليبية، لذلك تشارك مع قوات المشير خليفة حفتر من هذه الزاوية، فضلاً عن وجود ارتزاقي تمثله بعض الحركات الدارفورية المسلحة في ليبيا".
ويضيف "هناك أيضاً دوافع أخرى للوجود السوداني غير المؤسسي في النزاع الليبي، كالفقر، الذي ولّد ثقافة استرزاق بالسلاح على طول الحدود المشتركة. بيد أن الوجود السوداني في ليبيا ليس استثناءً عن الوجود الدولي والإقليمي الممثّل في الروس والأتراك وغيرهما. لكن بشكل عام، فإنّ السودان أكثر تأثّراً بتراجع الأحوال في ليبيا ويظهر ذلك جليّاً في دارفور"، لافتاً إلى أن تأثير هذا النزاع انعكس سلباً على الميزان التجاري بين البلدين الذي أصبح منهاراً تماماً بسبب النشاط المحموم لعمليات التهريب، كذلك فقدت الخرطوم شريكاً سياسياً مهماً في المنطقة بحكم أنها في فترة انتقالية تحتاج إلى دعم سياسي من بلدان الجوار كافة ومنها ليبيا.
أمراء حروب
ويبيّن إبراهيم أن الخطورة في هذا الأمر هي أن الوجهة المقبلة لهؤلاء المرتزقة أياً كانت تصنيفاتهم ستكون السودان نظراً إلى وجود الحركات المسلحة واتّساع الحدود وقربها وعدم وجود تأمين عسكري، بخاصة أن القادة المسلحين أصبحوا الآن أمراء حروب، يتّجهون أينما كان المال متاحاً.
ويضيف "استمعتُ إلى آخر حديث صادر عن عضو مجلس السيادة السوداني الفريق ياسر العطا حول النزاع الليبي وكان مناسباً ويتضمّن توازناً وتطوّراً ملموسَيْن. صحيح أن السودان كان ناشطاً في فترة المجلس العسكري التي أعقبت إطاحة الرئيس السابق عمر البشير، تجاه القضية الليبية لإيجاد حلّ يوقف هذا الصراع، إذ تقدم بمبادرات جيدة، لكن انشغاله حالياً بأوضاعه الداخلية بحكم أنه في فترة انتقالية جعله بعيداً نوعاً ما من المساهمة في وضع حدٍّ لهذه الأزمة، على الرغم من أنه الدولة الوحيدة التي تمتلك رؤية واضحة لذلك، تنطلق من الاستقرار. لكن من وجهة نظري، هناك جهات تعمل على إبعاد السودان عن دائرة صنع القرار بالنسبة إلى الحالة الليبية".
إيقاف التنمية
في سياق متصل، يشير أستاذ العلوم السياسية في جامعة أفريقيا بالخرطوم الدكتور كمارا عباس، إلى أن "الغرب أراد إيقاف التنمية من خلال تفاقم الأحداث في ليبيا. كميات كبيرة من الأسلحة قُدّرت بأكثر من 10 آلاف قطعة وصلت إلى دول الجوار الأفريقي، بخاصة النيجر ومالي وتشاد والسودان ودول المغرب العربي، ومنها وصلت إلى عددٍ كبير من دول القارة، لذلك تأثرت معظم الدول الأفريقية بهذه الأزمة بطريقة مباشرة وغير مباشرة، وما ساعد على ذلك وجود الصحراء القاحلة المنتشرة على طول الحدود مِمّا يصعّب مراقبتها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويتابع "ما يُقال إنّ والدة القذافي من الطوارق، وهي قبيلة ممتدة في دول عدّة من القارة، بخاصة مالي والنيجر وتشاد وغرب أفريقيا على وجه العموم، أسهم بشكل كبير في توسيع دائرة الصراع الليبي من خلال مشاركة عدد من المقاتلين الطوارق في تلك الدول في هذا النزاع على طول الحدود البلاد. وبلا شك، السودان ليس بمعزل عن بقية دول الجوار التي تأثرت بمجريات الأحداث في جارتها، فمنذ اندلاع هذه الأزمة أصبحت الحدود بين البلدين منفذاً لتجارة البشر تجاه الدول الأوروبية، باعتبار أن الخرطوم تجاور دولاً أفريقية عدّة يعاني سكانها من الفقر والقهر، فضلاً عن استخدام بعضهم في المشاركة في القتال الدائر بين الفرقاء الليبيين، ما جعل حكومة الوفاق في طرابلس تصدر مرات كثيرة اتّهامات بمشاركة قوات سودانية في الصراع الليبي، الأمر الذي ظلّت الحكومة السودانية تنفيه باستمرار".
ويقول "في اعتقادي، إنّ معالجة ما يدور عند الحدود الغربية بين ليبيا والسودان وتشاد التي تشهد نشاطاً أمنياً متوتّراً بسبب طولها وجغرافيتها الصحراوية التي تصعب مراقبتها، يتطلّب إيجاد صيغ تعاون في مجالات التجارة وتبادل المنفعة والاهتمام بتنمية هذه المنطقة، ما يوفر فرص عمل للشباب وما يجعلهم غير راغبين في المشاركة في أعمال تغذّي الصراع داخل ليبيا، فضلاً عن تكوين جيوش مشتركة بين الدول الثلاث لمراقبة الحدود والسيطرة عليها". ويلفت إلى أن أفريقيا أصبحت بؤرة للإرهاب الذي قدم إليها بعدما ضُربت عناصره في أفغانستان، وعمل على وضع مناطق ارتكاز له في شمال مالي ونيجيريا والنيجر وبعض بلدان المغرب العربي، كما وجد في ليبيا منطقة خصبة ومنها ينتقل إلى بقية دول القارة الأكثر هشاشة.
ويشرح كيفية معالجة هذا الوضع المتأزم والتعامل معه، بالقول "لا بد من أن تكون الحكومات الوطنية الأفريقية واعية بما يدور من تطوّرات في هذا الجانب، وأن لا يعطوا فرصة للإرهابيين بأن يتمدّدوا، لأنهم دائماً ما يلجؤون إلى الفقراء وأصحاب الحاجة لتجنيدهم، لكن إذا حدثت تنمية ورخاء ووجد الشباب فرص عمل، فلن يبقى لهؤلاء الإرهابيين مَن يجندونه".
اتهامات متبادلة
وظلّ السودان منذ اندلاع الصراع الليبي محلّ اتّهام من قبل حكومة الوفاق الوطني للتدخل في مجريات الأحداث في البلاد، ما جعل الخرطوم تسارع في كل مرة إلى نفيها، بعدم صحة أي حديث عن إرسال قواتها إلى ليبيا، مع التأكيد أن السودان ليس طرفاً في النزاع هناك. لكنها لم تستبعد أن تكون فصائل مسلحة أخرى خارجة عن النظام السابق قد عملت في ليبيا، بالتالي لا دخل للحكومة السودانية في ذلك.
في المقابل، ذكر خبراء في الأمم المتحدة، في تقرير نُشر في وقت سابق، أنهم لم يجدوا أدلّة موثوقة تؤكد ما أوردته وسائل إعلام ليبية عن وجود قوات عسكرية سودانية تقاتل مع قوات الجيش الوطني بقيادة المشير خليفة حفتر.