بعد تجدد المواجهات بين قوات الأمن والمحتجين العراقيين في ساحة التحرير وسط بغداد، تعود إلى الواجهة المخاوف من إمكانية أن تكون المرحلة الحالية شبيهة بما جرى في عهد رئيس الوزراء المستقيل عادل عبد المهدي من احتمال عودة موجات العنف ضد المحتجين من دون اتخاذ أي إجراءات حكومية رادعة والاكتفاء بتحميل جهات لا يتم الإعلان عنها بالمسؤولية عن قتل المحتجين العراقيين.
ويبدو أن ما حدث في اليومين الماضيين من قتل متظاهرين، يثير أسئلة عدة تتعلق بمدى إمكانية إدارة ملف محاسبة المتورطين بحوادث قتل تخللت انتفاضة أكتوبر (تشرين الأول) من قبل حكومة الكاظمي.
"مجموعات إجرامية"
وبحسب مصادر طبية وأمنية تحدثت لوكالة الصحافة الفرنسية، فإن أحد المتظاهرين توفي اليوم الثلاثاء، متأثراً بإصابة في الرأس من قنبلة دخان خلال مواجهات ليلية في ساحة التحرير بالعاصمة بغداد، ما يزيد حصيلة الضحايا إلى ثلاثة قتلى، بعد أن توفي متظاهران اثنان، صباح أمس، وأصيب نحو 13 جريحاً.
وكان رئيس الوزراء العراقي أمر بالتحقيق في أحداث ساحة التحرير، ومقتل متظاهرين مؤكداً أنه "ليس للقوات الأمنية الحق في إطلاق الرصاص على المتظاهرين".
وأصدرت وزارة الداخلية نتائج أولية للتحقيقات، اتهمت فيها من وصفتهم بـ"مجموعات إجرامية خطرة بالاندساس بين المتظاهرين"، محملة تلك المجموعات مسؤولية التصعيد بين المتظاهرين وقوات الأمن.
الأمر الذي أثار حفيظة الناشطين، الذين وصفوا تفاعل الحكومة الحالية بأنه شبيه لما كان يجري في فترة حكم رئيس الوزراء المستقيل عادل عبد المهدي، مشيرين إلى أن محاولة إبقاء الجهات المتورطة بقتل المحتجين طي الكتمان تحت أي ذريعة يعني أن هذه الحكومة تسير على خطى سابقاتها في الإشارة المتكررة لأطراف مجهولة.
وكانت حكومة عبد المهدي اتهمت في أكثر من مناسبة ما وصفته حينها بـ"الطرف الثالث" في قتل المحتجين، الأمر الذي يعتبره مراقبون محاولة للتغطية على الجناة الحقيقيين.
سقوط في فخ حكومة عبد المهدي
في المقابل، يقول الكاتب والصحافي أحمد حسين إن "أي حديث من قبل حكومة الكاظمي عن طرف ثالث، دون تشخيصه واتخاذ خطوات فعلية لتطويقه ومحاسبته، يعني سقوطها في الفخ الذي أودى بحكومة عادل عبد المهدي"، مبيناً أن "أولى مهام هذه الحكومة هو كشف القتلة، ووضع حد لأعمال العنف ضد المحتجين، ولم يعد أمام الكاظمي متسع من الوقت لإثبات قدرته على تحقيقها".
ويرى مراقبون، أن الفصائل المسلحة باتت متأكدة من عجز الكاظمي عن فتح أي جبهة حقيقة ضدها، وبدأت تخطط لتصويب ضربة قاضية نحو حكومته، عبر توريطه بدماء المحتجين، وهو ما سيضمن سقوطه من دون الحاجة إلى مواجهة مباشرة.
وفي هذا السياق، يضيف حسين لـ"اندبندنت عربية"، "الجميع، سواءً في أوساط المحتجين أو السياسيين والمسؤولين، يعرفون من يطلق النار، ومن المسؤول عن عمليات الاغتيال الممنهجة، كما أن الجميع يعرف بوضوح تام من هو الطرف الثالث، والإصرار على إطاحة عبد المهدي جاء لعجزه عن ردع تلك الجهات ومحاسبتها، والكاظمي بات في المأزق ذاته".
وأوضح أن "الحديث عن الانتخابات المبكرة لن يسعف الكاظمي، وهو أمام خيارين فقط، إما فتح النار على الفصائل المسلحة وإعلان الحرب ضد أذرعها في المنظومة الأمنية وتقديم الحقائق أمام المحتجين، أو انتظار مصير سلفه".
عماد حماية النظام السياسي
ولعل استمرار قوات مكافحة الشغب وبعض الأطراف الأخرى التي اتهمت في أكثر من مناسبة باستهداف المحتجين وقتلهم، يؤكد الفرضية التي تقول إن إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية أمر مستبعد، لأنها تمثل الذراع الرئيسة لحماية النظام السياسي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من جهة ثانية، يقول الصحافي معن الجيزاني إن "محاولة محاسبة قتلة المحتجين سواء في الأجهزة الأمنية أم في الجماعات المسلحة أمر بالغ الصعوبة"، وأرجع ذلك إلى أن "تلك الجماعات باتت تشكّل عماد حماية النظام السياسي الحالي ولن تجازف القوى السياسية بخسارتها".
ويضيف، "على الرغم من تشعب الخلافات داخل المنظومة السياسية، فإن جميع الأطراف ستقف عائقاً أمام أي محاولة لمحاسبة قادة الأجهزة الأمنية أو توجيه اتهامات صريحة لفصائل مسلحة"، مردفاً "الشروع بمثل ملف كهذا يعني إعلان الحرب على النظام السياسي من خلال تفكيك أذرعه المسلحة الرسمية وغير الرسمية".
يتابع الجيزاني، "النظام السياسي العراقي قائم على ثلاثية الفساد والميليشيات والقوات الأمنية المخترقة من قبل أحزاب السلطة، ولذلك فإن عملية تفكيك أي من عناصر هذه المنظومة ستواجه بقوة".
مسارات الكاظمي
ومع دخول محتجي أكتوبر (تشرين الأول) على الخط، لم يعد أمام الكاظمي فرصة كبيرة في تجنب الانخراط في مواجهة حقيقة وشرسة ضد منظومة "القوى الموازية للدولة"، ما يبدو مهمة مستحيلة وفق المعطيات الراهنة، ويعني أن رئيس الحكومة أمام مسارين؛ الرضوخ إلى الفصائل كما فعل عبد المهدي، أو مناكفتها إعلامياً على طريقة العبادي، لكن دون خطوات للوقوف بوجهها.
في سياق متصل، يشير الباحث في الشأن السياسي هشام الموزاني إلى أن "الكاظمي يحاول إدارة مرحلة تشبه فترة حكم العبادي، تكتفي بصراع إعلامي مع الأذرع المسلحة"، مبيناً أن "الصدام مع تلك الجماعات شبه مستحيل بدليل أن كل المحاولات السابقة ارتدّت عليه".
ويضيف، "على الرغم من محاولته الاقتراب من مسار العبادي، فإن خطواته تشبه خطوات عبد المهدي تحديداً في عدم الإشارة الصريحة أو اتخاذ خطوة واحدة إزاء الجماعات التي تقتل المحتجين، بشقيها الرسمي وغير الرسمي".
ويلفت أن "القمع والقتل باتا نمطين في تشكيل الدولة، وتغيير الرئاسات غايتها تقليل لنمط العنف وليس إنهاءه"، مبيناً أن "أحد عوامل وجود الكاظمي على رأس السلطة هي انتفاضة تشرين لكنه غير قادر على تغيير النمط العام الذي تسير وفقه العملية السياسية".
يتابع الموزاني أن "الدولة العميقة هي التي تتحكم عملياً بالسلطة في العراق، وهذا يعني أن احتمالية الصدام معها شبه منعدمة لأنها ستعني ضرب مصالح الأحزاب السياسية التي أتت بالكاظمي لرئاسة الوزراء".
ويختم أن "غاية وجود أي رئيس حكومة بعد عبد المهدي هي عدم التخوف من الإشارة لأطراف مشخصة من قبل الجميع باستهداف المحتجين، ولا وجود لتبرير يمكن الأخذ به في هذا السياق"، مستدركاً، "إن كان عاجزاً عن المواجهة فليستقل".
وكان رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي تعهد في أول بياناته بعد نيله ثقة البرلمان بالتحقيق في عمليات قتل المتظاهرين وعنف القوات الأمنية.
ويشهد العراق موجة جديدة للاحتجاجات في محافظات الوسط والجنوب، على خلفية تردي الخدمات وانقطاع التيار الكهربائي تزامناً مع موجة حر شديدة تضرب البلاد تجاوزت حدود الـ50 درجة مئوية.