تلقى كتب المذكرات والسير الذاتية والتراجم وأدبيات الاعتراف والبوح المرتبطة بنجوم الفكر والأدب رواجاً منقطع النظير، الأمر الذي أدى إلى التوسّع في عناوينها في قوائم دور النشر العربية خلال الآونة الأخيرة، بوصفها مؤهَّلة دائماً لبلوغ دائرة "البيست سيلرز" المتوهجة. وسواء اشتملت هذه الإصدارات على أسرار حياة مبدع عربي أو عالمي، فإن صدقية هذه الأعمال وجرأتها، وأيضاً انفتاحها وسخونتها وإثارتها في تناول الأمور العاطفية واللحظات الخاصة والحميمة والمسكوت عنها، وراء انتشارها والتكريس لها في مصر والعالم العربي على هذا النحو اللافت، وربما غير المسبوق.
ويشكّل العشق على وجه الخصوص، العلاقات الدافئة المندرجة كافة تحت سمائه، القوة الأكثر جذباً للقارئ في تلك الرسائل والأوراق المجهولة والمذكرات والاعترافات وفنون الكشف المختلفة من سير ومكاتبات وغيرها، إلى جانب ما يرويه المقرّبون من الأدباء والمبدعين عنهم كذلك من مغامرات وحكايا خفيّة. وبالفعل، فإن في طيات هذه الأعمال، قديمها وحديثها؛ شرقيّها وغربيّها؛ نماذج رفيعة في فنيّات الحب والمكاشفة الصريحة الصادمة وتعرية الذات من دون مواربة، ما جعل هذه الشذرات المبثوثة واللواعج المتطايرة في هيئة نقاط وحروف، فضحاً أميناً للداخل الإنساني، يزيد عمقاً وجدّية وأصالة على ما قد يُسرّبه المبدع "ضمنيّاً" في إبداعاته المُعلنة من إشارات ودلالات ومعانٍ ورموز معبّرة عن بعض جوانب شخصيته وتفاصيل حياته.
اللحظات الخاصة
مثل هذه الكتابات، الحافلة بأبجديّات اللحظات الخاصة، قد يعمل صاحبها على نشرها حال تدوينها، كما أنه قد ينوي إخفاءها لفترة ما، أو أنه يقصد بها أن تكون شخصية بشكل دائم، ثم يحدث أن يتم نشرها لاحقاً في ظروف مغايرة. وهي تلقى حفاوة جماهيرية واسعة في معظم الأحوال، لكونها تأتي عادة خالية من الحشو والزخارف، قاصدة إلى الهدف مباشرة من دون تنميق وتدبيج، فضلاً عن خوضها أحياناً في الشائك والمحجوب، واتسامها بالمفاجأة والتشويق والتعاطي مع المحاذير والمحظورات، ورسمها صورة حية هشة للمبدع الشهير عن قُرب، يتعطش إلى مطالعتها ك"دراما حقيقية" محبّوه وقرّاؤه ومتابعوه الذين يحرصون على التعرّف إليه وملامسته جوهريّاً في الواقع، ولا يتمكنون من تحقيق مرادهم.
من العوامل الأخرى الإضافية التي تُنعش هذه الإصدارات التي يجري الكشف عنها بعد انقضاء وقت على كتابتها، ذلك الولع من المهتمّين والقرّاء بالنوستالجيا حد الهوس، وخواء الساحة الراهنة من إشعاعات الاستنارة والإبداع الفذة في الحاضر العربي البائس، إلى درجة إصابة نسبة غير هينة من البشر بالاغتراب والفصام والرغبة في الارتداد إلى الوراء، إذ يبدو الفراغ المحدق حادّاً وقاهراً، ومن ثم فإن في الأحاديث المستعادة المكرورة عن "الزمن الجميل ونجومه" منافذ وهمية للعثور على ما هو غائب ومفقود حالياً من جماليات، ومحاولة قنص الحياة الهاربة، من توابيت الموت، التي تحاصر المشهد العبثي السائد.
كثيرة هي الشواهد على تلك المؤلفات الحافلة بالأسرار الشخصية والبراكين القلبية والعلاقات العاطفية والخفية والأوراق السرية والمجهولة والاعترافات والقصص المثيرة، بأقلام المبدعين أنفسهم عن ذواتهم، وذلك هو الأكثر ذيوعاً، وبأقلام مقرّبين منهم، في حالات أخرى أكثر ندرة. ومن أحدث ما أصدرته دور النشر المصرية والعربية على سبيل المثال لا الحصر، حياة دستويفسكي، ورسائل فان جوخ، وأوراق فرناندو بيسوا، ومذكرات إيمليو غارثيا غوميث، ومن قبل ذلك مكاتبات مي زيادة وأسرار محنتها في أيامها الأخيرة، ورسائل أنسي الحاج وغسان كنفاني إلى غادة السمان، ومذكرات الكاتب سهيل إدريس والكاتب محمد شكري والشاعر محمد فريد أبو سعدة، ومذكرات الكاتب محمد سلماوي، وغيرها من الإصدارات التي أفسحت مجالاً واسعاً لأدبيات العشق والإفضاء، وحفلت صفحاتها باللحظات الخاصة والاستثنائية التي لم تتضح بهذه الصورة في أعمال هؤلاء المبدعين الأخرى الاعتيادية.
حياة دوستويفسكي
في كتاب "حياة دستويفسكي أبي فيودور"، الصادر حديثاً عن "الدار المصرية اللبنانية" في القاهرة (2020) بترجمة أنور محمد إبراهيم، تتكشف أمور كثيرة غير معروفة في حياة الكاتب الروسي الأبرز دستويفسكي (1821-1881) من خلال ما ترويه ابنته "إيميه" من دون أي تحفظ أو سقف، لاسيما مغامراته العاطفية ونزواته المجنونة. وقد سبقته بفترة وجيزة في هذا السياق، في القاهرة أيضاً، ثلاث ترجمات عربية لكتب اعترافية ومذكراتية مهمة، هي: "الجواهر من رسائل فان غوخ" (ترجمة: ياسر عبد اللطيف ومحمد مجدي، الكتب خان للنشر والتوزيع)، "رحلة إلى مصر وسوريا وفلسطين: 1927-1928" للمستشرق الإسباني إيمليو غارثيا غوميث (1905-1995، ترجمة طه زيادة، المركز القومي للترجمة)، "فرناندوا بيسوا - رسائل ونصوص" (ترجمة وائل عشري، الكتب خان)، وفيها الكثير من علاقات هؤلاء المؤلفين الدافئة، ولحظاتهم الخاصة، إلى جانب أطوارهم الغامضة.
من أسرار دستويفسكي العاطفية التي كشفها الكتاب الذي يتناول حياته، تلك النزوة التي حلت به وهو في أوج شهرته وتحققه، بعد إصدار روايته "مذلون مهانون"، فمن بين آلاف المريدين للأديب البارز انجذب إلى فتاة شابة تدعى "بولينا"، وهي طالبة من طبقة كبار الأثرياء، لكنها لم تهتم بالعلم ولا حتى بالأدب بقدر اهتمامها بالتسكّع والرقص ومغازلة الرجال واصطيادهم تباعاً، واحداً تلو الآخر في مغامرات مؤقتة، والمدهش أن دستويفسكي كان على علم بما تفعله الفتاة المتحررة، ولكنه على الرغم من ذلك ترك نفسه فريسة لقصة عشق ملتهبة معها، في وقت كان فيه "الحب الحر" موضة عصرية!
وتفسير تلك العلاقة العجيبة غير المتكافئة التي جمعت دستويفسكي وبولينا كعاشقين يدوران على الأقطار الأوروبية معاً، دولة بعد أخرى، أنه كان يريد الهرب من صدمته بزوجته، التي كان يحبها بإخلاص، ثم اكتشف خيانتها، وأنها تسخر منه مع عشيقها، فأراد أن يثبت لذاته أنه باستطاعته أيضاً أن يخون زوجته، وأن يقضي حياة لاهية مثل غيره من الرجال، وأن يتسلى مع الفتيات الحسناوات كشاب مغامر!
حب بيسوا
وكشف فرناندو بيسوا من جهته في رسائله أموراً كثيرة جديدة ومثيرة حول أدبه وحياته الغامضة، وعلاقته بمعشوقته وملهمته "أوفيليا"، ومن ذلك رسالته التي يفلسف فيها الحب كشاب منغمس في التجربة: "من يحبون حقّاً لا يكتبون رسائل تشبه عرائض المحامين. لا يختبر الحب الأشياء على هذا النحو من القرب، ولا يعامل الآخرين كمتهمين في محاكمة. لماذا لا تستطيعين أن تكوني صريحة معي؟ لِمَ يتعين عليك أن تعذبي رجلًا لم يسبب أي ضرر لكِ أو لأي أحد آخر، وحياته المنعزلة هي بالفعل حمل ثقيل بما فيه الكفاية، من دون أن يزيد من ثقلها شخص ما بإعطائه آمالاً كاذبة وإعلان مشاعر زائفة؟".
في هذه الرسائل من فرناندو بيسوا إلى أوفيليا، التي لم تكن معروفة من قبل في العربية، يتمادى العشق ليبلغ ناصية الجنون، حيث يتخلى بيسوا "الرجل" في تلك المرحلة المحمومة من العشق عن بكارته وتحفظه، ويصرّح بتفاصيل العلاقة بينهما، بأسلوب لا يغفل الإدهاش والمفارقة: "الصغيرة الرهيبة، تروق لي رسائلك، وهي حلوة، وتروقين لي، لأنك حلوة أيضاً. وأنتِ حلوى، وأنتِ دبور، وأنتِ عسل، الذي يأتي من النحل لا الدبابير. أعتقد أنني سوف أتصل بك اليوم، وأود أن أقبلكِ بدقة ونهم فوق الشفتين، وأن آكل شفتيكِ وأي قبلٍ صغيرة تخبئينها هناك، وأن أميل فوق كتفك وأنزلق إلى نعومة حمامتيك الصغيرتين".
عزلة مي زيادة
وفي عالمنا العربي، يستحضر الكاتب الجزائري واسيني الأعرج في كتابه (روايته) "ليالي إيزيس كوبيا: ثلاثمئة ليلة وليلة في جحيم العصفورية" الصادر عن دار "الآداب" اللبنانية رسائل الكاتبة مي زيادة الخاصة ومذكراتها وأوراقها المجهولة، وفيها تتجلى أسرار علاقاتها بالكثيرين من مبدعي جيلها ومفكّريه، وعلى رأسهم: جبران خليل جبران، عباس محمود العقاد، طه حسين، أحمد لطفي السيد، مصطفى صادق الرافعي، أحمد شوقي، خليل مطران، وآخرون. وتعود هذه الأوراق النادرة إلى مخطوطة لمي زيادة بعنوان "ليالي العصفورية: تفاصيل مأساتي من ربيع 1936 إلى خريف 1941"، وقد كتبتها مي زيادة أثناء إقامتها في مصحة "العصفورية" للأمراض النفسية والعقلية في بيروت قبيل رحيلها بفترة وجيزة.
وقد كشفت مذكرات مي زيادة الكثير من تفاصيل حياتها كامرأة، والعلاقات العاطفية التي مرّت بها، بداية بابن عمها جوزيف الذي أحبته ووثقت به، لكنه غدر بها "باسْم الحياة ألقاني أولئك الأقارب في دار المجانين أُحتضر على مهل، وأموت شيئاً فشيئاً. جوزيف، كان قاتلي ومقتلي من دمي". أما جبران خليل جبران، فقد كان حب حياتها، والأقرب إلى قلبها: "حبيبي وأخي الذي يعرف جراحاتي. رفضتُ أن أكون مجرد رقم في حديقة نسائه. كان سندي وصديقي وأخي الذي لم تلده أمي وحبيبي الآخر، وموته دمرني". كذلك، تحمل مذكرات مي زيادة المجهولة بعض تفاصيل علاقتها بالعقاد: "كان من الصعب أن يراني امرأة خارج السيطرة، خارج سربه النسوي الذي أعرفه. لم أكن مهيأة للنوم معه، فكان يغضب كطفل صغير".
"اللحظات الخاصة" في كتب المذكرات والسير والتراجم والاعترافات، هي ومضات نارية مكثفة، واسعة الدلالات، ونوافذ فنية مفتوحة على ذوات المبدعين، لقراءتهم من الداخل، كما لم يتسنّ في أعمالهم المألوفة ومؤلفاتهم الإبداعية الأخرى، وهنا تكمن أهميتها المضاعفة.