انقسم اللبنانيون منذ أواخر ستينيات القرن الماضي حول الدور الفلسطيني - السوري في لبنان، ولم يكن دور سوريا في الحروب الأهلية اللبنانية خافياً على أحد، وقد أسهم تدخلها المباشر في القرار السياسي اللبناني عبر المنظمات الفلسطينية وحلفائها، وفي دخول جيشها إلى لبنان في عام 1976 في المرة الأولى، وفي عام 1989 في المرة الثانية، وفي كلتا المرتين كان دخول هذا الجيش يتم تحت لواء وقف النزاع بين الفرقاء اللبنانيين المتحاربين، حتى بدا السوريون وكأنهم مشعلو الحرائق ورجال إطفائها في الوقت عينه.
التمهيد للجريمة
ودخول الجيش السوري إلى لبنان في المرة الثانية حوّله إلى مقاطعة سورية فعلية، عبر تحكم النظام السوري بكل تفاصيل الحياة السياسية اللبنانية بعدما تمت إزاحة السياسيين المسيحيين عن المشاركة في الحكم، وشكّل السوريون نظاماً سياسياً على مقاسهم، فرفعوا شأن سياسيي الأطراف، وأجريت الانتخابات النيابية وفقاً لقوانين "مفصلة" تنتج مجالس نيابية تتبع بالكامل لهم، وتم بناء النظام الأمني الاستخباراتي السوري - اللبناني المشترك، الذي كانت له اليد الطولى في إرساء التحكم السوري في لبنان، واستمر الوضع على هذه الحال حتى عام 2000 موعد انسحاب الجيش الإسرائيلي من لبنان، حينها بدأت ترتفع الأصوات المطالبة بخروج الجيش السوري من لبنان من مختلف الأطياف السياسية اللبنانية وحتى من أولئك الذين اعتبروا حلفاء سوريا لمدة طويلة من الزمن.
ومنحت الانتخابات النيابية التي أجريت في عام 2000 الرئيس رفيق الحريري كتلة نيابية وازنة كرسته قوة سياسية توجّس منها النظام السوري، فدفع حلفاءه إلى محاربتها علناً، بعدما كان الخلاف "السوري - الحريري" يجري خلف الكواليس في السابق، وكان انضمام شخصيّات من فريق الحريري إلى "لقاء البريستول" إيذاناً بطلاق مع الوصاية السورية، فأصر بشار الأسد على التمديد لرئيس الجمهورية حينذاك إميل لحود، رغماً عن إرادة فريق كبير من اللبنانيين، ورغماً عن الإرادة الدولية المتمثلة بالقرار 1559 الذي صدر قبل التمديد بأيام، ونص على الطلب من النظام السوري سحب جيشه من لبنان ووقف تدخّله في الحياة السياسية اللبنانية، ثم تلا التمديد والقرار، جريمة اغتيال الرئيس الحريري، ومن بعدها انسحاب الجيش السوري من لبنان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ما قبل الانسحاب
كما يصف الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران سياسة النظام السوري بأنها مزيج مرهق من الصبر والعنف، يمكن إسقاط هذا الوصف على طريقة إدارة النظام السوري للبنان، فقد كان هذا النظام على خلاف دائم مع الرئيس الراحل رفيق الحريري، لأسباب يعددها مستشار الحريري في حينها نهاد المشنوق، في مقابلته الصحافية في جريدة "الحياة" (حازم الأمين، 2005/05/12) حين وصف العلاقة بين النظام السوري والرئيس الحريري بأنها كانت سيئة على الدوام، وقد بدأ الخلاف بين الطرفين بعد ثلاثة أشهر من تكليف الرئيس الحريري رئاسة الحكومة عام 1992، وكان الخلاف يدور حول أمور سياسية وإدارية وتنظيمية في لبنان، ويقول المشنوق إن "السوريين" كانوا ينظرون إلى الرئيس رفيق الحريري نظرة تخوينية، فوصموه بأنه أداة لتنفيذ المخطط الأميركي في المنطقة، وأن مشروعه الاقتصادي يقوم على توقّع الوصول إلى سلام مع إسرائيل، وكان يشعر دائماً أنه موضوع من قبل المسؤولين الأمنيين السوريين في خانة التآمر.
لكن القطيعة السياسية الأكبر التي قام بها النظام السوري مع الرئيس الحريري ومشروعه بدأت بعد انتخابات عام 2000 وحتى اغتياله، ويرى المشنوق أن هذا التصعيد بدأ عام 1996 واستمر في 1997 وانتهى عام 1998 بسماعه، اعتذاره على الراديو عن تشكيل الحكومة وخروجه لمدة سنتين من السلطة.
مؤتمر أصدقاء لبنان
التصعيد السياسي الذي بدأ في عام 1996 كان له سبب سياسي وهو انعقاد مؤتمر "أصدقاء لبنان" في واشنطن في 16 ديسمبر (كانون الأول) من ذاك العام، وهذا المؤتمر لم يكن ليرضي السوريين وحلفاءهم في الداخل اللبناني.
وأراد الرئيس رفيق الحريري لمؤتمر "أصدقاء لبنان" أن يكون الشق الاقتصادي للاتفاق السياسي الذي أطلق عليه اسم "تفاهم نيسان" والذي أقرّ في العام نفسه بعد الحرب الإسرائيلية الساحقة على لبنان، وكان هذا الاتفاق بمثابة الشق السياسي والعسكري والأمني، والذي تألفت عنه لجنة خماسية من الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا ولبنان وإسرائيل وسورية و"حزب الله"، ترعى تطبيق اتفاق وقف إطلاق النار ومنع استهداف المدنيين في المعارك التي تندلع بين "حزب الله" وإسرائيل.
وشارك في المؤتمر الذي عقد في واشنطن 29 دولة وثماني منظمات دولية، وقد أقرّ فيه تمويل لبنان بـ 3.5 مليار دولار عبر قروض طويلة الأمد بفوائد قليلة، وكان بعض هذه المبالغ على شكل هبات، بعد نجاح المؤتمر وتأديته ما كان مطلوباً منه، شن حلفاء سورية في لبنان هجوماً على حكومة الحريري، فالمؤتمر المنعقد في واشنطن من أجل دعم لبنان اعتبره هؤلاء محاولة لإدخال لبنان في محور معاد للوصاية السورية على لبنان بهدف ضرب مشروع "المقاومة"، وبالطبع فإن السبب المباشر لهذا الهجوم هو خوف سلطة الوصاية من أن يكون هذا المؤتمر خطوة نحو التخفيف من سطوتها في لبنان.
واتهم "حزب الله" المؤتمر بشراء "ولاء السياسة اللبنانية"، وكان الحزب قد ردد المقولة نفسها خلال مؤتمر باريس 3 الذي كان قد عقد قبل شهر، وشارك في الهجوم على حكومة الرئيس الحريري حينها سائر فصائل التحالف "الوصائي" من "حركة أمل" و"الحزب القومي السوري" و"البعث" ووسائل إعلام "الناصريين" و"العروبيين"، وسائر السياسيين الذي يتلقون أوامرهم من مركز الاستخبارات في عنجر حيث كان مكتب المفوّض السامي السوري.
التمديد ثم الاغتيال
ومن آخر علامات استلاب السياسة اللبنانية بالقرار السوري قبل اغتيال الرئيس رفيق الحريري، كان عام 2004 في موعد انتخاب رئيس الجمهورية اللبنانية، وكان الرئيس السوري بشار الأسد قد أعلن قبيل موعد الانتخابات في مقابلة تلفزيزنية أن تجديد أو تمديد ولاية إميل لحود، رئيس الجمهورية اللبنانية، "ليس أمراً محسوماً"، وكان يوحي في تلك الفترة أن رئيس الجمهورية اللبناني الجديد سيختاره اللبنانيون ولن يكون لسورية دور رئيسي في هذا الاختيار، وكان ذلك التعليق بمثابة رسالة تلقّفها ساسة لبنانيون، كانوا يجاهرون برفضهم التمديد لإميل لحود، على أنها رسالة سلمية تمنحهم الحق باختيار الرئيس في إطار تحسين العلاقات اللبنانية - السورية، على ما ظنوا.
ثم وبعد إعلان الرئيسين الفرنسي والأميركي عشية احتفال حلف الأطلسي ببداية تحرير فرنسا بالتزامهما تحقيق استقلال لبنان، في إشارة إلى إرادة الرئيسين بكفّ يد السوريين في لبنان، بدّل الرئيس السوري في مقابلة مع "الرأي العام" الكويتية رأيه في خصوص ما قاله في مقابلته التلفزيونية السابقة، وأعلن أن "كل الاحتمالات مفتوحة" في شأن تمديد ولاية الرئيس اللبناني أو تجديدها. وكان أن تم التجديد للرئيس إميل لحود رغماً عن إرادة ساسة لبنانيين كثيرين كانت لهم الغلبة في المجلس النيابي، وتحدياً للقرار الدولي 1559. ثم حين اتسعت المعارضة لهذا التمديد، وكان "تيار المستقبل" وعلى رأسه الرئيس رفيق الحريري قد بدأ بحضور اجتماعات "لقاء البريستول" المعترضة على التمديد، وقعت جريمة الاغتيال، التي قلبت سائر الموازين السياسية اللبنانية ولو لمدة قصيرة.
وحقّق اللبنانيون بمساعدة ضغط دولي كبير على النظام السوري انسحاب جيشه من لبنان، على الرغم من أن ثمن هذا الانسحاب اغتيال أحد القادة الذين كانوا يعملون على إعادة لبنان إلى سابق عهده الزاهي، وكان ثمنه أيضاً مجموعة كبيرة من الاغتيالات لسياسيين ونواب ومفكرين وكتّاب من خيرة المطالبين باستقلال لبنان وسيادته.