كانت واحدة من آخر حقبات الجنون الفني، قبل أن يدخل الساحة جنون الحرب وجنون الإنسان نفسه، وكان ذلك في حقبة ساد فيها الفن السوريالي ليضحى مدرسة قائمة بذاتها، وليتخذ في الوقت نفسه سمات التيار العالمي، بعدما كان معظم التيارات الفنية الأخرى، ينحصر في بلد معين أو منطقة معينة.
ذات يوم عند بدايات 1938، وفي اليوم التالي لافتتاحه "رسمياً" تدفق الجمهور إلى غاليري جورج فايلدنشتاين في باريس، للاندهاش المطلق أمام المعرض العالمي الأول للسوريالية. وكان عالمياً عن حق، إذ شارك فيه يومها أكثر من 60 فناناً أتوا من 15 بلداً بناء على دعوة أندريه بريتون، الذي أحس في تلك اللحظة بالذات بأن جهوده السوريالية قد أثمرت اخيراً، وبأن نزعته الأممية -العالمية، لم تكن مجرد هراء وعبث.
عالم واحد على ضفاف السين
قبل ذلك، كان ثمة حضور للسوريالية في الأدب والفن، وكانت معارض عديدة أقيمت في إمستردام وبرلين وباريس وغيرها، غير أن أياً من تلك المعارض لم يتمكن من أن يحقق تلك العالمية، "وتلك الوحدة بين فناني أمم عديدة" بحسب تعبير صحافة ذلك الزمن. ومن هنا جاء معرض باريس عام 1938 ليتبدى عالمياً وشاملاً بالمعنى الحقيقي للكلمة، لكنه جاء في الوقت نفسه وكأنه حفل تأبين لأحلام السوريالية نفسها. ولم يكن ذلك، فقط لأن مصير السوريالية من بعده حكمه اندلاع الحرب العالمية الثانية في العام التالي، تلك الحرب التي نقلت "الجنون السوريالي" من عالم الإبداع إلى عالم الواقع، بل أيضاً لأن ذلك المعرض نفسه أوصل السوريالية إلى ذروة تناقضها مع نفسها.
ففي البداية، حين دعا أندريه بريتون إلى سوريالية الفن والإبداع وتحلق من حوله عدد كبير من الفنانين والشعراء، وغازل التيارات السياسية التروتسكية، ونادى بثورة فنية تتواكب مع ثورة التغيير السياسي الدائمة التي كان تروتسكي يدعو إليها، كان العماد الأول للتيار السوريالي هو الإبداع التلقائي المنفلت من كل قيود ومن كل عقلانية واعية ومدروسة تتواكب مع ضرورة قيام الناس بثورتهم السياسية بانفلات عفوي بعيد عن التخطيط الحزبي المؤدلج والمخطط سلفاً.
كان ذلك الجانب اللاعقلاني في الثورة السوريالية، والجانب التلقائي في ممارستها لعملية الإبداع، ما أثارا اهتمام العديد من الفنانين والأدباء وجعلهم يتحلقون من حول بريتون ويراسلونه من بعيد، بيد أن ما شاهده الجمهور في المعرض السوريالي العالمي الأول في باريس، أتى مغايراً لذلك كله. فالمعرض الذي أشرف على تنظيمه أندريه بريتون ومارسل دوشان، وكان سلفادور دالي وماكس إرنست وأندريه ماسون من أبرز نجومه، بدا للناس مفتعلاً ومصطنعاً، يهمه أن يثير الاعجاب والتصفيق. كان من الواضح للجميع أن المعرض، يتوزع بين ذهنيتين، متشابهتين ومتناحرتين في الوقت نفسه، ذهنية أندريه بريتون التسلطية التي تخفي أعلى درجات العقلانية خلف تنظيرات العفوية الواهية، وذهنية سلفادور دالي الاستعراضية التي تنبعث من المهارة ومن الرغبة المدروسة في إثارة الإعجاب أمام الغرابة المفتعلة.
عفوية ولكن مفتعلة
وكان كل ما في المعرض، بما في ذلك ديكوره المسرحي المفتعل والمدروس، إذ يعبر المتفرج أولاً بلوحة "التاكسي الممطر" لدالي وتستقبله شقراؤه المغمسة بماء المطر والمغطاة بالحلزونات، ليصل إلى "الشارع السوريالي" المليء بالدمى العارية أو المرتدية أغرب الثياب بحسب رغبات مان راي، الرسام والمصور السوريالي المعروف، وصولاً إلى صالة فسيحة عرضت فيها مئات الأعمال والحوائج "السوريالية". كل ما في المعرض بدا يومها مفتعلاً ومنظماً بشكل جماعي مدروس، إذ تساءل الكثيرون: ولكن ماذا بقي من عفوية السوريالية وتلقائيتها، وأين أضحت تنظيرات بريتون وصحبه؟
أمام هذا السؤال بدا واضحاً أن السوريالية التي تحتفل بانتشارها العالمي، إنما تؤبّن نفسها في ذلك المعرض وتلفظ أنفاسها الأخيرة. وهذا ما كان بالفعل.
مهما يكن، لا بد أن نلاحظ هنا أن السوريالية قامت أصلاً ومنذ معرضها الفني الأول، والأخير، هذا، على سوء تفاهم بيّن، وذلك ربما بسبب كونها أول تيار إبداعي في تاريخ الفن يكوّن نفسه نظرياً ويعطي لذاته طابع الشمولية، من قبل أن يتشكل في بعده العملي. بمعنى أن السوريالية، كما صاغها أندريه بريتون ونفر من صحبه الأوائل، كانت، في المقام الأول، نظرية تحاول أن تؤرخ لباطن العقل الإنساني، أكثر مما كانت تفسيراً يحاول أن يربط بين تيارات عدة أو مدارس ممارسة للفن وقائمة بالفعل خارج التصنيف النظري، كما كان حال الانطباعية أو التعبيرية أو التكعيبية، على سبيل المثال.
عندما بدأ أندريه بريتون يبثّ الأفكار السوريالية، كان من الواضح أنه ليس مجرد ناقد أدبي أو فني، أو أستاذ جامعة أكاديمي، يحاول أن يواكب ظواهر فنية قائمة، بل إنه صاحب ثورة سياسية، فكرية، جمالية، تحاول أن تجد في مكتسبات العصر، على صعيد تفسير الأحلام والتحليل النفسي، والقراءة السيكولوجية لتاريخ الفن، سبيلاً لقيام فن جديد يمارس، في ذاته، ثورة تواكب الثورات السياسية التي كانت تعد بالكثير في العشرينيات والثلاثينيات، حيث كان الغضب العام ورغبات تغيير العالم، والأحلام تعشش في كل النفوس النخبوية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بين أزمة الفكر وأزمة الوجود
وهل نحن بحاجة، يا ترى، لأن نفسر السبب الذي يجعلنا، في هذا السياق، نتحدث عن السوريالية في كل مرة نعيش أزمة فكر وأزمة وجود؟ إن البعد الذي اتخذته السوريالية دائماً، ربما يكون واحداً من الأشكال الأساسية التي تعزز فكرة ارتباط الفكر (والحساسية الاجتماعية والسياسية، تالياً) بالفن. وفي هذه النقطة يكمن واحد من الإشكالات الأساسية التي تجابه النظرة العامة إلى السوريالية. اذ إننا نعلم أن العقود الماضية أعطت السوريالية شكلاً يشبه الشكل المعطى للفوضوية أو للعدمية: شكل الابتعاد التام عن قضايا الحياة الإنسانية، والانخراط في أنواع من الممارسة العابثة التي تعزّز فردية الفنان وتمرديته على القيم كافة.
وقد يكون في هذا التفسير جزء بسيط جداً من الصحة، لكن هذا الجزء يرتبط بفكرة التمرد، أكثر مما يرتبط بفكرة الفردية، فالسوريالي، ومنذ كتابات أندريه بريتون الأولى، شخص متمرد، لكنه لا ينطوي بتمرده على ذاته، ويجعل منه مبرراً لعدمية ما، بل إنه يضع هذا التمرد في خدمة الفن، ويضع الفن نفسه في خدمة الثورة، وحتى إذا كان قد وجد دائماً سورياليون أقحاح يعارضون بريتون وأساطين السوريالية الآخرين في نظرتهم الثورية هذه، فإن الذي لا شك فيه هو أن السوريالية كما تخيلها بريتون ورفاقه من الموقعين الأوائل على البيانات السوريالية والمشاركين في ذلك المعرض، إنما هي ثورة مسؤولة، تنطلق من تمرد على الأوضاع القائمة، بدءاً بأوضاع الفن الصالوني، واللوحة المهذبة، والأدب المنمق، وصولاً إلى الأوضاع السياسية، ومن نظرة إلى العالم، ومن فلسفة ذات وضوح ومن رؤية لمستقبل البشرية، بعيدة جداً من رؤى التشاؤم والفناء، وفي هذه النقطة يكمن سوء تفاهم آخر دفعت السوريالية ثمنه على الدوام.
السوريالية ضد المحاكاة
بيد أن الملاحظة الأساسية هنا تتعلق بولادة السوريالية نفسها، فإذا كان أندريه بريتون يقول في كتابه المعروف "السوريالية والرسم" ما معناه "أن فهماً ضيقاً جداً لمفهوم المحاكاة أعطي كهدف للفن، هو في أساس سوء التفاهم الخطير الذي نراه متواصلاً حتى أيامنا هذه. فعلى أساس أن الإنسان غير قادر على أكثر من إعادة إنتاج الصورة التي يعبر بها عما يلامسه، اكتفى الرسامون دائماً بإبداء الكثير من التسامح في مجال اختيارهم للنماذج التي يصورونها. والخطأ المقترف يكمن في الاعتقاد بأن النموذج لا يمكنه أن يؤخذ إلا من نموذج خارجي (...). صحيح أن الحساسية البشرية يمكنها أن تسبغ على الشيء ذي المظهر العادي جداً، اختلافاً غير متوقع (...)، لكن ثمة هنا تنازلاً لا يغتفر. فإنه لمن المستحيل، على أي حال، في الوضعية الراهنة للفكر، القبول بمثل هذه التضحية. من هنا يكون على العمل التشكيلي، لكي يستجيب لضرورة إعادة النظر المطلقة في القيم الحقيقية التي تتوافق عليها اليوم كل العقول، أن يستند إلى نموذج داخلي صرف، وإلّا فلن تقوم له قائمة. بالنسبة إلى السورياليين ليست المسألة مسألة مشاهدة العالم من خلال صورة الواقع الخارجي التي يقدمها. وما هذا لأن شعلة الثورة الإنسانية الحقيقية توجد هناك في أعماق الروح".
مقابل الواقع الظاهر والبسيط، طرح السورياليون، واقعاً ينبع من الأعماق ومركباً، طرحوا واقعاً يرسم مسيرة اللهيب في داخل الروح، وهم منذ البداية أدركوا أنهم لا يقدمون جديداً خالصاً بقدر ما يقدمون تفسيراً جديداً لنتاجات فنية تعاطت مع "الواقع الداخلي" وظلت غير مفهومة لفترة من الوقت طويلة: في الحلم أولاً، وفي داخل الروح المطلوب سبرها ثانياً، وثالثاً في العمل الفني. من هنا، ذلك التضافر لدى السورياليين بين النفس والحلم والفن، حتى لكأن هذه الثلاثة تصبح في لحظة الخلق الفني، واحداً.