إذا كان لسان حال بعض التفكير الديني يقول إن "مملكتي ليست في هذا العالم" فإن واحدة من أجمل وأقوى روايات الكاتب الكوبي آليخو كاربانتييه والتي تعود إلى عام 1949 وتعتبر من بواكير أدب "الواقعية السحرية"، تأتي لترد على هذا الكلام قائلة: لا... بل إن مملكتي في هذا العالم، ولا يمكنني أن أتركها ريثما أصل إلى العالم الآخر. الرواية التي تبدأ هذا التأكيد منذ عنوانها الذي لا يحتمل أيّ التباس، تقول هذا على لسان بطلها الذي تقدم لنا سيرته، من وجهة نظره، ومن خلال سيرته سيرة ثاني بلد في أميركا يحصل على استقلاله طارداً الغزاة الأوروبيين، بعد الولايات المتحدة الأميركية ولافظاً في طريق اسمه سان دومنغو ليحمل منذ ذلك الحين اسم هايتي. والبطل الذي نحن في صدده هنا هو المدعو تي نويل، العبد الذي يُقدّم على طول صفحات الرواية وهو يحاول، بنجاح حيناً ولكن بخيبات أمل متلاحقة في أحيان أخرى، أن يتخلص من وضعيته كعبد ليستعيد ولو جزءاً من كرامته كإنسان.
حياة فرد في تقلبات مرحلة
في روايته "ملكوت هذا العالم" يتابع كاربانتييه، إذاً، حكاية تلك الشخصية التي زامنت مرحلة الاستعمار الفرنسي لسان دمنغو، وتقلبت مع تقلبات المرحلة لترصد الأحداث والتغيرات والأحلام والكوابيس. إن تي نويل هو الذي يحدثنا عما يحصل له وللبلد الذي رأى النور فيه وها هو في كل مرحلة من مراحل حياته يسعى إلى أن يتحرر فيه من ربقة العبودية، من دون أن يفوته أن المسألة ليست دائماً مستوطنين بيضاً يستعبدون سوداً، بل هناك في كل مرحلة سود يستعبدون من هم أكثر منهم سواداً، وبائسون يستغلون من هم أكثر منهم بؤساً. ولما كان تي نويل في أسفل السلّم الاجتماعي دائماً، نلاحظ كيف أن مصيره يتقلب دائماً بتقلب من يسود عليه في هذه اللحظة أو تلك. لكن مصير تي نويل يرتبط كذلك بممارسات قد لا تكون لها علاقة مباشرة بالسياسة أو بالأوضاع الاقتصادية، بل ترتبط بالممارسات الطقوسية وبالتخلف، أو حتى بالحماسة الوطنية المرتبطة بصورة غريبة بممارسات الأديان المحلية وتلك التبشيرية، والسحر ولا سيما الفودو. بالتالي فإن تي نويل يتبع مصيره دائماً وهو يصرخ في كل لحظة يُقيّض له أن يصرخ فيها، ضد مستغليه الذين قد يصل الأمر بأحدهم – وهو سيده الذي يهرب به ذات ثورة تطارده، إلى كوبا – إلى أن يخسره في... لعبة قمار! فالعبد عبد، سلعة تشترى وتباع. وقولة "مملكتي ليست في هذا العالم" لا تكفّ عن تشجيعه على... الرضوخ!
منذ بداية الرواية يطالعنا تي نويل عبداً في مزرعة يملكها مستوطن فرنسي في منطقة الكاب شمال سان دومنغو، كما يطالعنا عبد آخر يدعى ماكاندال تعلق ساعده في آلة وتقطع قبل أن يكتشف وهو يرعى البقر كميات من النباتات السامة فيقررالاحتفاظ بها لتسميم كل البيض والتخلص منهم. لكن أمره ينكشف ويُشنق فيما يعتقد العبيد السود أنه تحول إلى بطل لمقارعة مالكي العبيد يراقبهم من الأعالي.
وإذ تمضي الأيام تأمر الحكومة الفرنسية بإعتاق العبيد، لكن مالك تي نويل يهرب به وببقية عبيده إلى كوبا وحين يتمكن تي نويل من الهرب والعودة إلى بلده يكتشف أن التغيرات السياسية كثيرة من بينها صعود المدعو هنري كريستوف إلى عرش المملكة التي تأسست على أنقاض المستعمرة. هنري كريستوف أسود وينادي بالتنوير، لكن لا شيء تغير. وهكذا تتابع خيبات تي نويل ويتابع هو بحثه عن الثورة على رغم تبدّل هوية السادة، في حركة دائرية تفيدنا الرواية أن لا نهاية لها.
مزيج فرنسي/ روسي
كان والد آليخو كاربانتييه فرنسياً كما يدل اسم عائلته، وأمه روسية كما قد يدل نفسه الروائي الطويل، وهو كوبي كما يعرف الجميع. وبالتحديد واحد من كبار الكتاب الذين عرفتهم كوبا في القرن العشرين. وكان يمكن أن يعتبر أكبر كاتب عرفته أميركا اللاتينية واللغة الإسبانية في زمننا هذا لولا طغيان اسمين كبيرين، على الأقل، على الأدب الذي أنتجته هذه القارة الحارة، والذي فاجأ النصف الثاني من القرن العشرين وأعاد للناس إيمانهم بالفن الروائي. ولد كاربانتييه في 1904. وهو حين رحل عن عالمنا عام 1980، كان يعتبر في مقدم كتّاب الرواية في العالم وثالث أكبر كاتب في طول أميركا اللاتينية وعرضها بعد غابرييل غارسيا ماركيز وميهخيل آنخل آستورياس، صاحبي الاسمين اللذين غطيا عليه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أمضى آليخو طفولته في مدينة هافانا، وفي أحيائها الكولونيالية العتيقة فتشرّب منذ تلك الطفولة بذلك المناخ الباروكي السحري الذي سيطبعه ويطبع أدبه حتى آخر أيامه. وهو بعد أن تلقى دراسة كلاسيكية قرر أن يتوجه صوب الصحافة. وهكذا ما إن بلغ العشرين من عمره حتى وجد نفسه رئيساً لتحرير مجلة "كارتيلاس"، وكانت تلك المرحلة التي بدأ فيها نضاله السياسي ضد ديكتاتورية ماتشادو، ما جره إلى السجن حيث أمضى سبعة أشهر في عام 1927 بسبب توقيعه على بيان ضد الديكتاتور. وبعد خروجه من السجن قرر أن يهاجر مستفيداً من صداقته مع الشاعر الفرنسي روبير دسنوس، فتوجه إلى باريس حيث أقام أحد عشر عاماً، وهناك انضم إلى حلقة الشعراء السورياليين وراح يسهم في تحرير مجلة أندريه بريتون "الثورة السوريالية". وكان بريتون يتندر بقوله إنه إذا كان هو - أي بريتون - قد ابتكر نزعة أدبية هي "العجائبية" فإن هذه النزعة تبدو ملائمة لكاربانتييه أكثر مما هي ملائمة لأي شخص آخر، بسبب ثقافته الأميركية اللاتينية. غير أن كاربانتييه ما لبث أن ابتعد عن السورياليين مقترباً من الشيوعيين قائلاً إن ثقافتهم تتلاءم مع "الواقعية السحرية" أكثر مما تتلاءم معها السوريالية، ومن ثم توجه إلى إسبانيا ليشارك كتابها التقدميين نضالهم ثم عاد إلى كوبا وقد آلى على نفسه أن ينصرف كلياً إلى الكتابة عن وطنه وعن القارة الأميركية. غير أن أولى محاولاته لم تكن على مستوى طموحاته، حتى وإن كان قد وضع في تلك الأثناء كتاباً عن الموسيقى الكوبية اعتبر مرجعاً في موضوعه.
النجاح منذ رواية أولى
مهما يكن فإن مواهب كاربانتييه الروائية الحقيقية ستتفجر بصخب في 1949 حين ينشر روايته الكبيرة الأولى "ملكوت هذا العالم"، والحال أن نجاح تلك الرواية دفعه للعمل أكثر، بالتالي للتنقل أكثر بين كوبا وفنزويلا وفرنسا طوال فترة سنوات الخمسين والنصف الأول من سنوات الستين، وهي الفترة التي كتب خلالها أهم أعماله ومن بينها "اقتسام المياه" (1953) "المطاردة" (1957) و"حرب الأزمنة" (1958) ثم "عصر التنوير" (1962) وبخاصة "اللجوء إلى المنهج" (1975)، تلك الرواية الفذة التي تدخل في إطار الروايات الكبرى التي كتبها كبار روائيي أميركا اللاتينية، من آستورياس إلى روا باستوس، وصولاً إلى ماركيز، حول حياة ديكتاتوريي القارة وعلاقتهم بشعوبها. والحال أن عوالم متعددة هيمنت دائماً على روايات كاربانتييه أهمها عالم منطقة بحر الكاريبي. ومن ناحية أخرى، يعتبر أدب آليخو كاربانتييه أدباً يعيش مسعى دائماً للبحث عن جذور الثقافة اللاتينية في أميركا، ومن هنا كان توزّعه الدائم بين الوصف المعمق لعالم أميركا اللاتينية، ونقده القاسي للعالم القديم (أوروبا).
اليوم قد يبدو آليخو كاربانتييه منسياً بعض الشيء، بعد أن هيمنت أسماء أخرى أكثر حداثة وجرأة على الأدب الأميركي اللاتيني، منذ أواسط سنوات السبعين أي منذ الوقت الذي توقف فيه كاربانتييه، عملياً، عن الكتابة، لكنه قبل ذلك كان إلى جانب أستورياس وروا باستوس (في الجانب الإسباني اللغة) وجورج أمادو (في الجانب البرتغالي اللغة)، أصحاب الأسماء الكبرى، لا سيما كاربانتييه الذي جاء ليضع تلك القارة وتاريخها على خشبة مسرح العالم، انطلاقاً من بحث دائم عن الجذور، واهتمام دائم بمشكلة اللغة، والتساؤل الدائم عن الهوية ومعناها، في عالم تبدو الهوية فيه، بحسب كاربانتييه، عبئاً على صاحبها، أكثر منها ميزة له.