لم يكُن الطريق سهلاً نحو "اتفاق الرياض"؛ لأن الوصول إليه انطلق من أهداف نهائية مُرتجاة لدى كل طرف، كانت - وما زالت - شديدة التناقض وغير ممكنة التحقُّق على الأرض بمجرد التوقيع على وثيقة، وعُوِّض ذلك الخلل بحشد التأييد الإعلامي لها. ولم يكُن خافياً خلال الأشهر الأولى التي سبقت الاتفاق في الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني) 2019، أن غياب القواسم المشتركة بلغ سقفاً لم يكُن معه من اليسير تحفيز الأطراف لتقف على قاعدة واحدة سعياً وراء بلوغ غاية واحدة. وكانت اللغة المُتبادلة والاتهامات المُتطايرة قبل التوقيع وبعده مُثيرة لمزيد من الشكوك حول إمكانية تحويل (الاتفاق) إلى واقع ملموس يخفف عن الناس مُعاناتهم.
لم يكُن انفجار الأوضاع غير متوقع، وإنما نتيجة تراكُمات كامنة تسبَّبت في جزء منها الخلافات الجنوبية المتواصلة، وجذورها مُمتدة في الصراعات التي عصفت بجنوب اليمن خلال فترة الحكم اليساري بعد خروج الاحتلال البريطاني في 30 نوفمبر 1967. وكانت دورات الإقصاء والدم المتكررة بين الرفاق، تجري في الأغلب بخطوط مناطقية للانفراد بالسلطة حتى وإن غُطِّيَت بالشعارات اليسارية البرَّاقة. وعلى الرغم من المحاولات التي بذلتها شخصيات كثيرة نحو مصالحة جنوبية، فإنها لم تحقق نجاحاً بسبب التعقيدات المناطقية والنزعات القبلية والذاكرة التاريخية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في واقع الأمر لم تجرِ مساعٍ جادة لمعالجة آثار الصراعات القديمة شمالاً وجنوباً، لا قبل الوحدة (22 مايو/ أيار 1990)، ولا بعدها. ولم يلتفت أحد إلى الأمر بعد حرب صيف (أبريل/ نيسان – يوليو/ تموز 1994)، وكان بقاء الصراعات المناطقية والقبلية جزءاً أساسياً من سياسة حكم الرئيس الراحل علي عبد الله صالح، لكنه كان قادراً بشخصيته القوية وحضوره الدائم على التحكم في مُخرجاتها وضمان عدم انعكاسها بما يتسبب في اهتزاز سلامة النظام وأمنه، كما كانت مفيدة طيلة سنوات حكمه لإضعاف كل القوى المحلية التقليدية وبقاء اعتمادها عليه وارتباطه به، لتظل في المشهد أو الوظيفة. وعلى الرغم من ابتعاده النسبي عن الواجهة السياسية في فبراير (شباط) 2012، ثم مقتله في ديسمبر (كانون الأول) 2017، فإن آثار سياساته وعجز الخَلَف الرئيس هادي على تجاوزها فاقمت من الاضطرابات وتركت بصماتها، فلم يتمكَّن من التعامل معها بما تستوجبه من روح المسؤولية، ولم يتمكن من تجاوز العقدة النفسية الناتجة عن حرب الرفاق في يناير (كانون الثاني) 1986. وهذا لا يعني أن الشمال كان خالياً من دورات الدم لفترات من تاريخه قبل الثورة وبعدها في 26 سبتمبر (أيلول) 1962، وكذا الصراعات البينية المناطقية والمذهبية، ولكنها حالياً غير حاضرة في المشهد الكُلي الذي صار الحوثيون هم القوة الأكثر تأثيراً عليه في ظل غياب كل القيادات الشمالية خارج اليمن منذ 2015 وضعف التكوينات السياسية.
حين أُعلن عن التوصل إلى صيغة نهائية لـ"الاتفاق" في نوفمبر 2019، لوحظ إغفال، عن قصد، وربما عن غير قصد، أن الطرفين لم يلتقيا قبل ذلك لبحث التفاصيل الحقيقية والتاريخية التي تسببت في الصراع. وهكذا، كان من المُحتم أن التهرب منها وتأجيل البحث فيها سيصل بالأمر إلى حالة غموض وإرباك، لأن من صاغ بنوده افترض رغبة الأطراف اليمنية في التنفيذ وإرادتهم للانتقال إلى تهدئة حقيقية، وهما شرطان غير متوافرين الآن وحينها. وكان من الواضح للمتابع المتجرد أن الرياض استخدمت أوراق ضغط للخروج من المأزق الذي وجدت نفسها فيه، ولإدراكها أن الفشل في التوقيع سيخلف آثاراً سياسية سلبية وتفجيراً شاملاً للموقف في الجنوب، ولكن الظن بتوافر الرغبة والإرادة عند الأطراف اليمنية كان مخيباً لآمال المتفائلين؛ فلم تمر أسابيع حتى تفجرت الأوضاع مرة أخرى وصار واضحاً أن (الاتفاق) لم يعُد كافياً لإعادة الأمور إلى وضع طبيعي، يُسهم في التفرغ إلى القضية المصيرية التي تهم كل الشعب اليمني، وهي الوقف الفوري للحرب والاستعداد لمفاوضات الحل السياسي.
إن أسباب عدم تنفيذ (الاتفاق) كامنة خارج نصوصه، ولا يمكن التعويل على بنوده؛ لأن الطرفين قد رفعا سقف مطالباتهما إلى حد يصعب التعامل معها، أو التراجع عنها. وهكذا ظهرت الضرورة المُلحَّة والعاجلة لمهمة جديدة لإنقاذ (الاتفاق)، فاستُضيفت جولة جديدة من المساعي السعودية في فندق "الريتز" الشهير بالرياض لأكثر من ثلاثة أسابيع، انتهت بما سُمِّي "آلية تسريع". ومرة أخرى جاءت بنود العرض الذي صاغته السعودية غير مختلف عن (الاتفاق) إلا في تراتُبية نصوصه. وتوصَّلت اللقاءات غير المباشرة إلى نتيجة عملية واحدة هي تكليف معين عبد الملك بتشكيل حكومة أطلقوا عليها اسم "كفاءات سياسية"، وكان الاختيار سهلاً لعدم قُدرة فريقي التفاوض (الشرعية والانتقالي) على التوصل إلى اتفاق حول شخصية أكثر حنكة وتجربة، وأيضاً لرغبة غير يمنية وُجدت في شخصيته وتكوينه مخرجاً مؤقتاً إلى حين التوصل إلى تفاهمات أوسع. كما تم اقتسام الموقعين الجدليين (محافظ ومدير أمن عدن) بين الرئيس هادي والمجلس الانتقالي، فاتفقا أيضاً على اختيار شخصيتين غير جدليتين.
أبرز نقاط الضعف في "الاتفاق" و"آلية تسريع تنفيذه" هي أنها لم تتناول القضايا الخلافية الحقيقية، ولم يتم بحثها في العمق، وكان المبرر أنها ستبحث خلال البحث في التسوية النهائية، وهذا تصور لا يأخذ في الاعتبار أن الطرف الذي سيدخل في المفاوضات المقبلة التي سترعاها الأمم المتحدة (أقصد جماعة الحوثي) مع الطرف الجديد المشترك (الرئيس هادي والمجلس الانتقالي)، غير معني ألبتة بما يتوصل إليه الكائن الهجين الجديد، وهذا يستدعي العمل على تسوية الملعب الجنوبي أولاً، لأنه من دون ذلك سيشكل ضعفاً داخل الحكومة المقبلة وتالياً في المفاوضات المرتقبة.
لقد اقتنعت عواصم الإقليم والعالم بأن الحرب قد حقَّقت أقصى ما يمكنها إنجازه، وأن الحل السلمي صار مطلباً محلياً وإقليمياً ودولياً. ومن هنا فلا مناص من المواجهة الصريحة بعيداً عن تبادل الاتهامات وادعاءات التمثيل الحصري للناس دون تفويض شرعي مُقنع، وما دام الرئيس هادي والجنوبيون الذين معه قد اقتنعوا بأن المجلس الانتقالي جزء من الشارع الجنوبي، فمن الأسلم أن يتفقوا على تحاشي الدخول في صراع جديد، لن يكون بالإمكان تفاديه إلا بوضوح الأهداف النهائية من دون اختباء وراء المفردات الغامضة.
المعضلة الحقيقية تختبئ خلف جدار ضعيف من الاتفاقات والصِّيَغ، وما لم تمتلك الأطراف جرأة المواجهة السياسية والخروج من مبادئ المُداراة والتأجيل والترحيل، فلن يكون من الممكن التعويل على الحكومة المقبلة؛ لأنها ستُشكل حتماً بخطوط حزبية خالصة وبتمثيل لكيانات لا حضور لها ولا تأثير على أرض الواقع، وبخليط يجمع تناقضات شخصية وحزبية بأهداف متضاربة، وليس وطنياً العمل عبر المُساومة على القضايا المصيرية التي سترسم مستقبل البلاد، وستشكل ملامح المرحلة الجديدة وما يليها، ومن غير الجائز "سلق" الحلول، خصوصاً أن النتيجة المُتوخَّاة هي صياغة مستقبل اليمن والأجيال المقبلة وتطلعاتها.
إن التوصل إلى نتيجة مختلفة بالوجوه نفسها التي فشلت في الماضي، وبتكرار الأساليب التي لم تحقق نجاحاً مؤملاً في السابق وبنهج التفكير التقليدي ذاته، لا يمكن أن ينتج عنها إلا ردم نيران مشتعلة قبل إطفائها واستمرار الحركة صعوداً ثم هبوطاً من دون كوابح، فتعود الأوضاع لترتطم بالقاع الصلب.