رواية الكاتب الأفغانيّ عتيق رحيمي بعنوان "حبّ في المنفى"، صدرت ترجمتها حديثاً عن دار الساقي وهي رواية رحيمي الأولى المكتوبة بالفرنسيّة وقد صدرت بعنوان “Les porteurs d’eau” أو "السقّاءان" عن دار P.O.L. الفرنسيّة. ورحيمي المولود العام 1962 في كابول كاتب ومخرج أفلام انتقل للعيش في فرنسا منذ العام 1985 جرّاء الظروف التي شهدتها أفغانستان أواخر القرن الماضي، ولكنّه ابتداءً من العام 2002 وبعد سقوط نظام طالبان صار يتنقّل بين فرنسا وبلده الأمّ. ويقول رحيمي في إحدى المقابلات المجراة معه حول هذه الرواية إنّه كتب قسماً منها بالفارسيّة ثمّ عاد وكتب هذا القسم نفسه بالفرنسيّة وأكمل سرده بها. ورحيمي الذي يكتب بالفرنسيّة وبالفارسيّة حائز جائزة غونكور الفرنسيّة العام 2008 عن روايته "حجر الصبر" كما أنّه حائز جائزة الأدب الفارسيّ في إيران العام 2010 عن روايته "الأرض والرماد"، وقد ترجمت عدّة أعمال روائيّة له إلى العربيّة قد تكون آخرها رواية "ملعون دوستويفسكي."
ويتبيّن للقارئ تعمّق رحيمي بالميثولوجيا الإغريقيّة بخاصّة عندما يتمّ تشبيه المرأة بباندورا المرأة الأولى التي حملت معها إلى الأرض علبة الشرور، أو أيضاً عندما يشبّه رحيمي أحد بطليه بسيزيف الملعون المحكوم بالصعود إلى قمّة الجبل كلّ يوم دافعاً صخرته الثقيلة أمامه. هاتان الإشارتان بالإضافة إلى إشارات كثيرة أخرى حوّلت النصّ من مجرّد سرد للواقع الأفغانيّ المحكوم بنظام طالبان إلى نصّ غزير حافل بالرموز والعودات إلى تاريخ البشريّة الحضاريّ.
رواية الهزيمة
ينقل رحيمي قارئه في روايته هذه إلى أفغانستان في ظلّ نظام طالبان: أفغانستان الرازحة تحت نير الوحشيّة الاجتماعيّة، والظلم اللاحق بالمرأة، والاستبداد الذكوريّ والسياسيّ والدينيّ، وتحكّم رجال طالبان بالناس، وإقامتهم لنظام الجلد لمن لا يصلّي في الجامع ولا يتبع التعاليم الصارمة والقاسية. وعلى الرغم من أنّ السرد قائم على راويين اثنين أحدهما يعيش في كابول والآخر خارج أفغانستان، إلاّ أنّ مسألة الهويّة المشلّعة والغربة الداخليّة والوطن الضائع لا تنفكّ تكبّل الفضاء السرديّ وتسلّط الضوء على القهر الذي مارسه طالبان على الأفغانيّين في الداخل وفي الخارج. ويتميّز نصّ رحيمي بسرد يميل إلى الحنكة الصوفيّة أو التأمّليّة فما من موضع واحد من الرواية يسيطر عليه العنف اللفظيّ أو الوصفيّ، بل على العكس، يجد القارئ أنّ عجز الشخصيّات عن التعبير عن الظلم الذي يطاولها هو بحدّ ذاته أسمى دليل على ألمها ووجعها وبؤس الواقع الذي تعيشه.
وقد تكون المرأة أبرز ضحايا نظام القمع والاضطهاد هذا، المرأة الابنة والمرأة الزوجة والمرأة المعشوقة. إنّ نساء رواية "حبّ في المنفى" جميعهنّ نساء مهمّشات؛ منهنّ من نجحت في الفرار صوريّاً كالشابّة نوريا، من دون أن تتمكّن من نزع مخلّفات هذا النظام الباطش عن نفسها فعليّاً، ومنهنّ من علقت في دوّامة الموت والتشدّد، لتتحوّل المرأة الأفغانيّة إلى امرأة مستضعفة منتهكة الحقوق مضطهدة، لا تنجو لا في الداخل ولا في الخارج.
وفي نظام دينيّ متشدّد، ليست المرأة وحدها هي الضحيّة، يتحوّل كلّ من يخالف أوامر نظام طالبان القاسية والصارمة إلى كافر يستحقّ الجلد 97 مرّة. الهندوس ملاحقون، النساء مضطهدات، الرجال مجبرون على الصلاة، الأطفال مجبرون على حفظ القرآن، والملاّ هو الآمر الناهي في نظام صارم ظالم مستبدّ يتحكّم بكلّ شيء، حتّى بالأفكار أحياناً: "حين يردّد يوسف هذه الكلمات بينه وبين نفسه يتوقّف ملتفتاً يميناً وشمالاً خشية أن يكون قد سمعه أحد، حتّى لو كان لا يتحدّث إلاّ مع نفسه. لا أحد يعلم، ففي مدينة الملاعين والممسوسين هذه، هناك من هم قادرون على إدراك جميع الأصوات الداخليّة، خصوصاً تلك التي تراودها الأفكار الآثمة!" (ص: 83).
بين منفيين
يختار رحيمي أن يجعل أحداث روايته تدور كلّها في يوم واحد وهو يوم 11 مارس (آذار) 2001، يوم تاريخيّ كارثيّ لأفغانستان وللحضارة الإنسانيّة، فهو اليوم الذي دمّر فيه نظام طالبان تمثالَي بوذا في باميان وهما تمثالان أثريّان ضخمان منحوتان على منحدرات وادي باميان وسط أفغانستان، ويُعتبر هذا التمثالان رمزين للفنّ الهندوسيّ الإغريقيّ الكلاسيكيّ ويعود بناؤهما إلى القرن السادس الميلاديّ عندما كانت باميان مركز تجارة بوذيّاً. وقد دمّرت حركة طالبان هذين التمثالين رغبةً منها في محو أيّ وجود لديانة وثنيّة على أراضي أفغانستان على الرغم من أنّ هذين التمثالين بالإضافة إلى عدد هائل من التماثيل البوذيّة الأخرى وكهوف الرهبان شكّلت آثاراً ضخمة ودلائل حضاريّة تاريخيّة عريقة.
ويدور السرد على محورين اثنين في هذا اليوم، يوم الهزيمة كما يسمّيه رحيمي، فمن ناحية هناك يوسف السقّاء الذي يعيش في كابول مع زوجة شقيقه إبراهيم الذي لا يُعلم عنه شيء، وهناك تميم الأفغانيّ الذي يعيش في فرنسا منذ خمسة وعشرين عاماً ويقرّر في صباح هذا اليوم أن يهجر امرأته وابنته حبّاً بعشيقته نوريا المقيمة في أمستردام.
وينقسم الصوت الروائيّ على مدار ثلاثين فصلاً بين يوسف الذي يكتشف رويداً رويداً أنّه مغرم بزوجة شقيقه، وبين تميم الذي يقرّر البقاء مع عشيقته في أمستردام. وبينما تدور أحداث قصّة يوسف على الطريق في كابول في ظلّ نظام طالبان وقسوة حكمهم وتزمّت عقيدتهم، تدور أحداث قصّة تميم أيضاً على الطريق بين باريس وأمستردام تحت مطر غزير لا يرحم ولا يتوقّف.
ومن أبرز ما يجذب القارئ إلى هذه الرواية هو أوّلاً عنصر الماء الموجود في قصّة الراويين الإثنين، فيوسف سقّاء يحمل الماء إلى البيوت في فصل الجفاف والبرد، وتميم يقود سيّارته نحو أمستردام تحت مطر غزير لا يكفّ. وبينما البطلان الاثنان محاقان بعنصر الماء الذي هو عموماً مرادف للحياة، يتحوّل هذا الماء نفسه إلى عنصر قاتل يفتك بالإثنين ويوصلهما إلى مصيرهما المشؤوم الذي توقّعه تميم في وسط السرد عندما قال لنفسه بصوت منخفض: "هذه المياه ستودي بك." (ص: 79).
وبينما الراويان بعيدان جغرافيّاً واجتماعيّاً إلاّ أنّ البناء السرديّ لقصّتيهما يتشابك ويقوم على نظام متوازٍ يتقدّم بالطريقة نفسها نحو النهاية. فالرجلان في رحلة طويلة يقومان بها خلال هذا النهار، كلّ منهما بحسب ظروفه، إلاّ أنّهما يمرّان بالأمور نفسها. فأوّلاً يوسف سقّاء في كابول يسير طيلة يومه في الشوارع حاملاً الماء للناس ويبحث عبثاً عن شيرين ليعترف لها بحبّه لكنّه في نهاية المطاف يؤول به الأمر إلى أن يقيم حديثاً وجوديّاً مع تاجر هندوسيّ؛ ومن ناحية أخرى يقود تميم سيّارته تحت المطر المنهمر بغزارة بين باريس وأمستردام ويبحث عبثاً عن عشيقته نوريا ليعترف لها بحبّه هو الآخر لكنّه في نهاية المطاف يقيم حديثاً وجوديّاً مع امرأة عارفة من دون أن يجد نوريا.
الذاكرة المنتهكة
تُعدّ رواية عتيق رحيمي من الروايات التي تمزج بين روح الميثولوجيا والمعتقدات القديمة وبين الواقع القاسي الخاضع للظلم والاستبداد والتزمّت الدينيّ والسياسيّ والاجتماعيّ. ويتمكّن السرد من نقل الصراع الذي يقوم داخل الشخصيّات بحرفيّة ومهارة وشيء من الغموض فتترك الأمور أحياناً مسكوتاً عنها، ليفهم القارئ ما يحصل ويتبيّن حقيقة الأمور من دون أن يكون السرد فظّاً أو قاسياً على الرغم من أنّ الإطار الزمانيّ والمكانيّ والحبكة نفسها تحتمل هذا الأمر.
ويستغرب قارئ رواية رحيمي خيار المترجم أنطوان سركيس للعنوان، فعلى الرغم من أنّ عبارة "حبّاً منفيّاً" وردت في الصفحة 193 من الرواية إلاّ أنّ عنوان "حبّ في المنفى" (العنوان الأصلي للرواية هو "السقاءان") لا يرتبط ارتباطاً وثيقاً بموضوع الرواية وهمّها الأوّل كما أنّه قريب بشكل واضح من عنوان رواية "الحبّ في المنفى" للأديب بهاء طاهر الصادرة عن دار الآداب العام 1995. صحيح أنّ الحبّ هو المرتجى في قصّتي يوسف السقّاء الذي يعيش في كابول وتميم الذي يعيش في باريس إلاّ أنّ رحيمي طعّم نصّه بقضايا الهويّة والوطن والهرب من الذات والطريق إلى السعادة بالإضافة إلى كون الماء عنصراً بالغ الأهمّيّة في السرد، فيوسف سقّاء يحمل الماء على ظهره ليروي عطاشى قريته، وتميم يقود سيّارته تحت الماء والمطر الغزير. فلماذا التغيير في العنوان؟ لماذا تسليط الضوء على الحبّ بينما ليس الحبّ سوى واجهة لقضايا أعمق وأقسى؟ ولماذا الحديث عن المنفى بينما أحد البطلين مقيم في أفغانستان؟ وهل هو منفى داخليّ؟ لماذا التحوّل عن العنوان الأساسيّ الغزير والغنيّ بالمعاني والرموز؟ لماذا التحوّل عن رمزيّة "السقّاءان" إلى حصر الحبكة ضمن عنوان "حبّ في المنفى"؟
عدا عن ذلك، يقول رحيمي في إحدى المقابلات المجراة معه إنّه اختار أن يكتب السرد مستعملاً ضمير المخاطب "أنت" عندما كان السرد يتوقّف عند تميم، فلماذا لم تحترم الترجمة هذا الأمر في المواضع كلّها ولماذا تأرجحت مواضع السرد التي تخصّ تميم بين ضميري الـغائب والمخاطب؟ هل الأمر مقصود أم هو هفوة من المترجم؟ لقد تمّ سرد أحداث الرواية وفق ثنائيّة يوسف وتميم، وخصّ ضمير الغائب يوسف بينما خصّ ضمير المخاطب تميم وقد تمكّن القارئ من التمييز بين المحورين عبر هذه المهارة اللغويّة فلماذا لم تتمّ المحافظة عليها؟
يقول رحيمي في إحدى المقابلات المجراة معه إنّه اختار أن يكتب السرد مستعملاً ضمير المخاطب "أنت" عندما كان السرد يتوقّف عند تميم، فلماذا لم تحترم الترجمة هذا الأمر في المواضع كلّها ولماذا تأرجحت مواضع السرد التي تخصّ تميم بين ضميري الـغائب والمخاطب؟ هل الأمر مقصود أم هو هفوة من المترجم؟ لقد تمّ سرد أحداث الرواية وفق ثنائيّة يوسف وتميم، وخصّ ضمير الغائب يوسف بينما خصّ ضمير المخاطب تميم وقد تمكّن القارئ من التمييز بين المحورين عبر هذه المهارة اللغويّة فلماذا لم تتمّ المحافظة عليها؟
غير ان عمل الترجمة هذا يظل عملاً جميلاً من حيث اللغة والمضمون، ويبقى هذا المجهود لنقل عمل عالميّ إلى العربيّة مجهوداً محموداً مشكوراً وتبقى رواية عتيق رحيمي رواية غزيرة زاخرة بالمعاني والصراعات والرموز.