دفعت الأزمة الاقتصادية التي باتت "تقلق" الجزائر، حكومة عبد العزيز جراد، إلى البحث عن سبل تحريك عجلة التنمية ومنع انفجار اجتماعي زادته إجراءات مواجهة جائحة كورونا توهّجاً. وقد وجدت في تجارة المقايضة "بيع سلع بسلع"، مع دول منطقة الساحل، مخرجاً قد يسهم في تشجيع الصناعة والزراعة والتصدير ومحاربة البطالة في مناطق كانت إلى وقت قريب "تغلي" اجتماعياً.
تجارة المقايضة مع دول الساحل
وأدخلت الحكومة تعديلات على قانون المقايضة من أجل تطوير المبادلات التجارية مع الجيران الأفارقة، وتخفيف الضرر الناجم عن تراجع عائدات النفط، إضافةً إلى كسب قبائل "الطوارق" في دول الساحل، حيث حدّد قرار وزاري مشترك بين وزارَتَيْ التجارة والمالية، شروط وكيفية ممارسة تجارة المقايضة الحدودية وقائمة البضائع موضوع التبادل. وأوضح أن هذه التجارة تكتسي طابعاً استثنائياً وتستهدف تسهيل تموين السكان المقيمين في محافظات جنوب البلاد، ممثّلةً في ادرار وإليزي وتمنراست وتندوف دون سواها.
ووفق نصّ القرار، فإنه يمكن أن يمارس تجارة المقايضة الحدودية أي شخص طبيعي أو معنوي مقيم في المحافظات المعنية ومسجل في السجل التجاري بصفته تاجر جملة، وتتوفر لديه هياكل للتخزين والوسائل الملائمة لنقل البضائع على سبيل الملكية أو الاستئجار. كما يحدّد المحافظ المعني، بموجب قرار، كل سنة، قائمة تجار الجملة المرخص لهم بإنجاز عمليات تجارة المقايضة الحدودية، إذ يمكن للمحافظ أن يسحب الرخصة من التاجر الذي لم يقم بأي عملية استيراد أو تصدير خلال السنة المعنية، أو الذي لم يحترم الأحكام التشريعية والتنظيمية التجارية والجمركية والجبائية المتعلّقة بالطب البيطري والصحة النباتية المعمول بها.
احتواء سكان المناطق الحدودية
في السياق ذاته، يرى أستاذ الاقتصاد عبد القادر بريش في تصريح لـ"اندبندنت عربية"، أن صيغة المقايضة التي تُعتبر من أقدم أدوات التعامل بين التجمّعات البشرية، تسهم في تشجيع التواصل والتقارب بين الشعوب والدول، بخاصة في المناطق الحدودية، موضحاً أن إقدام الجزائر على تقنين وضبط التعامل بالمقايضة مع دول الجوار الجنوبية، سيساعد في تنشيط حركية التجارة في المنطقة والتقليل من عمليات التهريب ومختلف الجرائم المعروفة في الحدود الجنوبية. ويقول إن المقايضة تسمح أيضاً بخلق وظائف عبر دفع كثيرين من الشباب إلى العمل في التجارة المشروعة عوض النشاط في التهريب والممنوعات، ما يسهم في تطوير مناطق تبادل حرّ مع دول الجنوب، ومنه اقتحام الأسواق الأفريقية.
ويشير بريش إلى أن الحكومة تهدف من الخطوة إلى تنظيم تجارة المقايضة ورقابتها، من خلال تحديد قوائم السلع المسموح بها في الصيغة، ما يضفي الشرعية على نشاطات سكان المناطق الحدودية ويقلّل من مضايقتهم. كما تسعى إلى احتواء سكان المناطق الحدودية عوض تركهم عرضة لجماعات التهريب والجريمة. ويختم أن الخطوة تكشف عن تغيّر الاتجاه نحو تنويع مصادر مداخيل الدولة وتجاوز منطق اقتصاد الريع، وهي بداية نحو بعد تنموي أكثر في المستقبل.
شروط وإجراءات مشدّدة
ومن أجل منع التلاعب بالصحة العامة والغش، أشار القرار إلى أن دخول البضائع المستوردة إلى التراب الجزائري يبقى مرتبطاً باحترام قواعد والتزامات الطب البيطري والصحة النباتية، وكذلك يجب ألّا تشكل البضائع، موضوع تجارة المقايضة، خطراً على صحة المستهلك.
كما شدّد على أنه لا يمكن أن يتجاوز مبلغ المنتجات التي اشتُريت قصد التصدير المبلغ المصرّح به عند الدخول، وأن عمليات التصدير تكون موضوع تصريح لدى الجمارك وترفَق به نسخة من التصريح بوضع البضائع المستوردة موضع استهلاك وفواتير شراء المنتجات التي يُراد تصديرها، وأن هذه المستندات يجب أن ترافق التاجر المعني حتى اجتياز الحدود. لكن عندما يكون التصدير قبل الاستيراد، يجب على تاجر الجملة أن يكتب التزاماً يكفل استيراد البضائع موضوع التبادل في أجل لا يتجاوز ثلاثة أشهر، و"لا يمكن تسويق البضائع المستوردة في إطار تجارة المقايضة الحدودية خارج الحدود الإقليمية للمحافظات المعنية".
العودة إلى المحيط الإقليمي
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ووفق المحلّل الاقتصادي مراد ملاح، فإن اقتصاد المناطق الحدودية هو اقتصاد قائم بذاته، له أسسه العلمية ويتّسم بأهمية بالغة كونه الخيار الإيجابي لتنمية متوازنة ومنفعة مشتركة، ناهيك عن كونه رافداً للسلام والتعايش بديلاً عن القلاقل التي تميّز المناطق الحدودية عادة. ويقول إنه للأسف في الحالة الجزائرية نظراً إلى التباين الاقتصادي مع الجيران وسياسة الدعم الحكومي المتبنّاة، "تخسر البلاد سنوياً ما لا يقل عن 4 مليار دولار جراء عمليات التهريب، من بينها مليار ونصف مليار دولار في تهريب البنزين فقط"، مشيراً إلى أن قرار تقنين التبادل التجاري بالمقايضة، مهم وصائب ومن شأنه إعلاء روح المصالح المشتركة. كما أن توقيته حاسم بعدما تحوّل الدعم نفسه إلى عبء على كاهل الحكومة الجزائرية، نظراً إلى شحّ الموارد المالية وزيادة الأعباء مع انخفاض تاريخي لأسعار النفط.
ويعتقد ملاح أن القرار سيعيد الاعتبار إلى المناطق الحدودية ويوفّر بديلاً عن التهريب، ويسمح لا محالة لشباب هذه المناطق بالعمل وممارسة حياتهم بشكل أفضل، مبرزاً أنه توجّه حقيقي نحو الجنوب عبّر عنه الرئيس عبد المجيد تبون في أكثر من مناسبة. والحقيقة أن "العودة إلى محيطنا الإقليمي وبناء علاقات اقتصادية وشراكات حقيقية، توجهات منطقية وبراغماتية، بعيداً من مقاربة التعامل مع دول الجوار بمنطق المساعدات فقط، بخاصة أنها دول تمثل عمقنا الاستراتيجي في ظروف إقليمية ودولية صعبة وحساسة".
"ربح الطوارق"
في المقابل، يعتبر الإعلامي وليد مدكور في حديث لـ"اندبندنت عربية"، أن الحكومة تبحث عن حلول اقتصادية في كل الاتجاهات وتصحيح مسار الحكومات السابقة والسلطات التي أغلقت الحدود مع الجارتين مالي والنيجر، وفتحها 48 ساعة في الشهر، في تصرّف أثّر كثيراً في تجارة المقايضة وأسهم في تفشّي البطالة بالمناطق الحدودية الجنوبية.
ويشير إلى أن قرار الحكومة بإعادة بعث تجارة المقايضة وتحسين المعاملات التجارية مع الدول الأفريقية، جاء ردّاً على الصعوبة في التصدير لأوروبا بسبب المنافسة القوية، مقابل منطقة الساحل التي تُعتبر خصبة لهذه التجارة. ويوضح أن الجزائر تبحث عن عمقها الأفريقي وإيجاد حلول لمحافظاتها الجنوبية، داعياً إلى توسيع قائمة السلع وتحرير تجارة المقايضة، إلى جانب حمايتها قانونياً وتسهيل الإجراءات الجمركية. ويختم أن الخطوة لها أبعاد جيوسياسية أيضاً، فبالنظر إلى الأوضاع في المنطقة، الجزائر تريد "ربح الطوارق".