ما حلّ في بيروت لا تقف حدوده عند موت مدينة، لتتجاوزه إلى التحضير لإعلان موت وطن، وطن لم يقتله غريب يترصّد به ويخطّط للتخلص منه، وهو أمر لا يمكن استبعاده من الحسابات، فهذا البلد الصغير كنملة، والجارح كنمر، كان محطّ حسد واستهداف من كثيرين لِما يمثّله من تجربة فيها من الفرادة والتفرّد الكثير التي عجزت وتعجز عن إتيانها كيانات وأوطان أخرى عدّة مهما بذلت وحاولت وسعت، تبقى غير قادرة على مضارعة فعله في الإصرار على الحياة والنهوض والتمسّك بالحبّ والعيش ولملمة الجراح ليعود وينبت من بين ركام وردة برّية، ترفل بجمال وحشي أشدّ احمراراً ونضارة من كل مشاتل العالم المرعية بكل المنشطات والمبيدات الحشرية والبشرية.
هي بيروت التي تختصر لبنان بكل تنوّعاته وتلوينه وتلويناته الفكرية والاجتماعية والدينية والمذهبية، قتلها تجار الهيكل الذين تمرّسوا في إجداب ضرعها على مدى عقود، قتلوها ليخفوا سوأتهم التي مارسوها في فعل النهب والسلب والسرقة والوقاحة من دون أن يساورهم خوف أو قلق مِمَّا يفعلون بهذا الجسد الممدّد على حافة الماء الأزرق لبحر أبيض متوسط، طالما كان ينحو عليها ويضمّد جراحها بملحه النقي الطاهر، وحتى عندما ألمّ بها مصابها الفاجع، تحمّل عنها العبء الأكبر من هول الفاجعة وخفّف عنها الكثير من التشوّهات التي أصابت وجهها.
مدينة اغتالوها، واغتالوا فيها الوطن وآخر خيوط الأمل التي تمسّك بها كثيرون آمنوا بهذا الوطن وأحبّوه من دون فواتير وحسابات خاصة في المصالح والبنوك والمشاريع والاستثمارات، اغتالوا حلم الفقراء الذين لا يربطهم بهذا الوطن وهذه المدينة سوى الحبّ من دون شروط وما تشكّله من مساحة لإمكانية عيش كريم وعزيز.
وطن، قتله سياسيون وأمراء فساد وحروب ومصالح، من الداخل والخارج، لأنه شكّل لهم ولإجرامهم تحدّياً في رفضه الموت وإصراره على الحياة.
هل يمكن أن نقبل ونسكت على فعلتهم، نحن الذين لا نملك غير هذا الوطن وما يمثّله من أمل، مساحة للعيش والتلاقي، هل نسمح لهم في إعلان انتصارهم بسلبنا وطناً وحلماً دفعنا الكثير من أجله. هل نسمح لهم بأن يكرّسوا فكرة الوطن كحلم بعيد المنال. هل نقبل أن تتحوّل "اللبنانية" إلى مجرد "مهنة" يمارسون فيها كل أفعال السلب والنهب والنصب والاحتيال والسرقة.
ما حدث لا بد من أن يصبح نقطة تحوّل جذرية في المجتمع اللبناني وتعامله مع هؤلاء الفريسيين وتجار الهيكل، الذين بدأوا يستعرضون دموع التماسيح على ركام المدينة، ويرفعون كؤوساً فاضت من دمائنا ودماء كل المؤمنين بهذا الوطن، احتفاءً بالفرصة التي تلوح في أفق مصالحهم التي شيّدوها على ركام أرواحنا.
كلهم شركاء في الجريمة، مهما تغيّرت وتلوّنت سماتهم وصورهم وملامح وجوههم الكالحة، فلا نؤمن بتباكيهم على أشلائنا، وهم يستحقّون الطرد من هيكل الوطن، والمواجهة بحقيقتهم، بأنهم لصوص الهيكل، وأن لا مكان لهم بيننا أو على ما تبقّى لنا من أرض وسماء. وأنّ مطرحهم في السجون ليحاكَموا على ما ارتكبوا بحقّنا وحقّ هذا البلد الذي لا يشبه بشاعتهم وبشاعة ما فعلوه.
هل يمكن لِمَن تبقّى من لبنانيين أن يخرج من مربّعات الانتماءات الضيّقة السياسية والطائفية والفئوية إلى الفضاء الأوسع للوطن والإنسان والكرامة، وأن يعلن كفره بهؤلاء الذين تمرّسوا على سلبه كل ما يؤلّف إنسانيته وحياته وكيانه، وأن يرمي بهم إلى المحاكمة، فهم أعداء الجماعات التي ينتمون إليها قبل عدائهم للوطن والمواطن.
هل يمكن لنا أن نوقف البحث عن وطن يليق بنا، وأن نعمل على استرجاع واستعادة هذا الوطن من براثن من نشبوا أنيابهم في أجسامنا وجسد هذا الوطن، خدمةً لمصالحهم وأرصدتهم في البنوك الخارجية.
إنّنا أمام فرصة تاريخية، أن نقول لهم إنّ زمن المحاسبة الحقيقية قد بدأ وإنّنا لن نُخرِج أحداً من دائرة الاتهام والمسؤولية، كلّكم مرتكبون وشركاء في الجرم المتراكم على مرّ العقود، وإلّا فلنسكت وندفن رؤوسنا في ركام المدينة ونكمل مسيرة دفن الوطن لنواري سوأتهم وسوأتنا، وأنّنا نستحق ما يفعلون بنا وبالوطن من ارتكابات وأفعال. فهل نريد وطناً أم نرضى بالبقاء أرقاماً في مزارعهم؟