كيف يمكن إنقاذ لبنان من تداعيات الكارثة الزلزالية التي ضربت بيروت ومحيطها وخلّفت وضعاً إنسانياً مأساوياً يعمّق جراح اللبنانيين الذين تلاحقهم لعنة الكوارث والنكبات منذ عقود؟
فما إن ينهضوا من أحزان الحروب الداخلية، حتى تأتيهم الاجتياحات الإسرائيلية، وما إن يزيلوا آثار دمارها حتى يعانوا من تداعيات سياسات تقوم على الهدر والفساد والسرقة وإقحامهم من قبل "حزب الله" في حروب لا ناقة ولا جمل لهم فيها، تزيد آثارها من عزلتهم عن دول شقيقة وصديقة.
هول الكارثة التي استفاق عليه اللبنانيون في 5 أغسطس (آب) فاق ما سبقه من نكبات حلّت بهم، لا سيما أنه يتوّج انهياراً في اقتصادهم وعملتهم الوطنية، يتدحرج انحداراً منذ زهاء 10 أشهر، بإفلاس الدولة اللبنانية واستدانة الحكومات المتعاقبة من أموال المودعين في المصارف اللبنانية ومصرف لبنان المركزي.
الدعوات إلى تحقيق دولي
وفضلاً عن أن كشف طبيعة الانفجار الهائل الذي ولّد الكارثة التي يعيشها لبنان، لا يزال يخضع للتأويلات في انتظار عمل لجنة التحقيق الأمنية الوزارية التي شكّلها مجلس الدفاع الأعلى عقب الانفجار في 4 أغسطس، فإن التكهنات حول أسبابه لا تزال تملأ الفضاء الإعلامي اللبناني والعربي والأجنبي، بعدما صرّح الرئيس دونالد ترمب أن عسكريين أميركيين أبلغوه بأن الانفجار في مرفأ بيروت ناجم عن قنبلة وهجوم، في مقابل المعلومات الرسمية التي جرى تداولها في اجتماع المجلس الأعلى للدفاع عن أن الـ2750 طناً من نيترات الأمونيوم مخزَّنة في العنبر الرقم 12 منذ عام 2014 بعد مصادرتها من باخرة كانت متوجّهة إلى أفريقيا، وإلى جانبها مفرقعات نارية أصابها حريق أدت نيرانه إلى الانفجار الضخم. إلّا أنّ محلّلين عسكريين وضباطاً سابقين، بينهم النائب عن "القوات اللبنانية" وهبة قاطيشا، يستندون إلى فيديو جرى توزيعه على مواقع التواصل الاجتماعي يظهر جسماً في الأجواء بعد اندلاع الحريق في المرفأ، يتجه نحو العنبر المذكور، ثم وقوع الانفجار الضخم، اعتبره هؤلاء صاروخاً إسرائيلياً، استهدف مواد متفجرة تخصّ "حزب الله".
قراءات أسباب الانفجار
واكب هذه التقديرات توزيع بعض خصوم "حزب الله" معلومات عن أنه يمتلك نيترات الأمونيوم، بعد كشفها من أجهزة استخبارات أجنبية منها ألمانيا وغيرها... لكن كل ذلك بما فيه ما تسرّب من جهات رسمية، يبقى في إطار التأويلات في انتظار نتائج التحقيقات. فالكارثة دخلت حلبة التجاذبات السياسية التي تتحكّم بلبنان، بما فيها التحقيق الجنائي المطلوب إلى حدّ صدرت دعوات من جهات عدّة إلى تحقيق دولي في أسباب المأساة. فالنائب مروان حمادة، العضو في "اللقاء الديموقراطي" تقدم باستقالته من مجلس النواب، في كتاب إلى رئيس البرلمان نبيه بري عبر الأمانة العامة للمجلس، مطالباً بتشكيل لجنة تحقيق دولية وتحريك المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء.
الدعوات إلى التحقيق الدولي توالت في الساعات الماضية، وهي انعكاس للخلافات السياسية العميقة في البلد حول القراءات المتعددة لأسباب الانفجار الضخم. النائب السابق فارس سعيد طالب بالتحقيق الدولي وكذلك بعض النواب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وصدر بيان بعد اجتماع بين قيادة تيار "المستقبل" والكتلة النيابية برئاسة زعيم التيار رئيس الحكومة السابق سعد الحريري إثر جولة ميدانية في وسط العاصمة وبعض أحيائها، أشار إلى أن "هناك شكوكاً خطيرة تحيط بالانفجار وتوقيته وظروفه وموقعه وكيفية حصوله والمواد الملتهبة التي سبّبته". وطالب البيان الدولة "بكل مؤسساتها ورئاساتها، بتحقيق قضائي وأمني شفاف لا يخضع للمساومة والإنكار والهروب من الحقيقة والالتفاف عليها مهما بلغت حدود المسؤوليات ومكوّناتها فيه. ولكي يصل اللبنانيون إلى تحقيق شفاف على هذا المستوى، لا بد من طلب مشاركة دولية وخبراء دوليين ولجان متخصصة قادرة على كشف الحقيقة وتحقيق العدالة لبيروت وأهلها".
وغمز "المستقبل" من كلام قاله رئيس الحكومة حسان دياب خلال اجتماع مجلس الوزراء برئاسة رئيس الجمهورية، حين دعا إلى "التحلّي بالمسؤولية ووقف المناكفات"، فاعتبر أن "هذه لحظة لا تحتمل الكلام المنمّق والتهرّب من تحديد أسباب الجريمة الحقيقية عبر دعوات التضامن وتوحيد الجهود لرفع الركام ومساعدة المتضررين وتلفيق التقارير والشائعات على مواقع التواصل الاجتماعي". وتابع البيان "بيروت تريد أن تعرف كيف تم تدميرها، ومَن المسؤول المباشر عن تخزين مواد شديدة الانفجار في قلبها، وما الداعي لوجود هذه المواد منذ سنوات في أحد هنغارات المرفأ ومَن أتى بها إلى لبنان، ومَن سمح بحجزها وكيف سكتت الأجهزة الأمنية الموجودة في المرفأ عن ذلك؟".
وكان الحريري وصف ما حصل بأنه "اغتيال لبيروت"، وحين سُئِل عما يعنيه، قال "اللبنانيون يعرفون مَن أعني بذلك"، مضيفاً أن هناك دولاً بإمكانها "مساعدتنا في التحقيق".
ويخشى المعارضون من أن يقتصر التحقيق الذي تشرف عليه السلطة على تحميل المسؤولية لبعض الموظفين بعد إضاعة المسؤولية عن تخزين المواد المتفجرة، بين إدارة المرفأ ومديرية الجمارك والأجهزة الأمنية، وأن يتم الاكتفاء بإزاحة البعض من أجل تعيين بدلاء عنهم.
التسريبات: أمن الدولة أخطر عون ودياب ووزراء
وبينما سُرّبت معلومات منسوبة إلى مصادر أمنية بأن مديرية أمن الدولة كانت نبّهت الحكومة عام 2014 برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي حينها، ثم بعدها إبان رئاسة الحريري للحكومة، وأنهما مسؤولان عن السكوت عن تخزين الأمونيوم في العنبر الرقم 12، نفت الأوساط المتّصلة بهما ذلك وقال الحريري متحدّياً هذه التسريبات: "فليعملوا تحقيقاً بذلك".
وأكدت مصادر قريبة من الحريري لـ"اندبندنت عربية" أنه لم يتلقَّ أي إخطار إبان رئاسته للحكومتين منذ 2016 حتى نهاية أكتوبر (تشرين الأول) 2019. ومساء الأربعاء، تسرّبت معلومات من مصادر رسمية أخرى عن أن مديرية أمن الدولة رفعت تقارير عن وجود نيترات الأمونيوم في المرفأ ثلاث مرات آخرها في 20 يوليو (تموز) 2020 للرئيس دياب، عبر الأمانة العامة للمجلس الأعلى للدفاع لإعلامه باستمرار تخزينها، لكن لم يحصل أي تحرّك في هذا الشأن.
وذكرت المصادر أن أمن الدولة كان رفع تقريراً بالأمر إلى الرئيس عون في 10 ديسمبر (كانون الأول) أي بعد استقالة الحريري، وأثناء عملية تشكيل حكومة دياب الحالية، ثم رفع تقريراً ثانياً في شهر يونيو (حزيران) الماضي إلى وزيرة الدفاع زينة عكر ووزير الأشغال العامة والنقل ميشال نجار إضافةً إلى رئاسة الجمهورية، حول تخزين الأمونيوم بطريقة غير آمنة في المرفأ.
وهذه الوقائع إذا صحّت، فإنها توجه المسؤولية نحو عون ودياب ووزراء في الحكومة الحالية.
لكن الشكوك التي بدأت تحوم حول توجيه التحقيقات، دفعت رؤساء الحكومات السابقين الذين اجتمعوا مساء الأربعاء في منزل الحريري (نجيب ميقاتي، فؤاد السنيورة وتمام سلام إضافةً إليه) إلى التنبيه من أن وجود الأجهزة الأمنية في حرم المرفأ من دون أن تلتفت إلى المخاطر الرهيبة، يقتضي محاسبة كل من يثبت تقاعسه أو تورطه. كما أن الرؤساء الأربعة دعوا إلى "الطلب من الأمم المتحدة أو من الجامعة العربية تشكيل لجنة تحقيق دولية أو عربية من قضاة ومحققين يتمتّعون بالنزاهة والحرفية والحيادية للكشف عن ملابسات الكارثة".
وبينما كان الرئيس ميشال عون دعا اللبنانيين إلى التضامن، ووعد بأنه "سنعلن بشفافية نتائح التحقيقات التي ستجريها لجنة التحقيق وترفع نتائجها إلى القضاء المختص"، بدا أن التناقضات السياسية بين رجال الحكم والمعارضة بقيت على حالها من الحدّة، معطوفةً على الشكوك في شأن التحقيقات. فقد ألحق الأمين العام لتيار "المستقبل" أحمد الحريري بيان الكتلة النيابية بتصريح قال فيه إن "هذه الجريمة بحقّ لبنان واللبنانيين يجب ألّا تمر من دون محاسبة جدية وشفافة. وما يزيد هذه الفاجعة خطورة أنها تأتي في ظلّ سلطة فاقدة للشرعية الشعبية والدولية، وهذه السلطة مطالَبَة بالرحيل".
كما أن النائب حمادة وجّه استقالته من البرلمان، نحو عهد الرئيس عون، مؤكداً صعوبة التعايش معه ومع التركيبة الحاكمة إلى جانبه. هذا على الرغم من أن استقالة حمادة لقيت ردود فعل متباينة بين زملائه، فاعتبر بعضهم أنه بدل الاستقالة كان يجب أن يستمر في مهماته في هذه الظروف من أجل مواجهة الحكم القائم وفشله في وضع البلد على سكة الحلول لأزمته الاقتصادية.
ماكرون وبومبيو والمساعدات
إلّا أنّ ما أحاط بالكارثة وأبعادها على الرغم من حال التضامن الاجتماعي والأهلي مع المصابين والقتلى والمشرّدين من بيوتهم في العاصمة، لم يحجب استمرار الانقسام السياسي على مستويين: الأوّل هو المتعلّق بالشكوك بالتحقيقات التي ستجريها السلطة اللبنانية المتَّهمة بأنها تقع تحت نفوذ "حزب الله" وارتباطه الإقليمي بإيران ومشروعها، والمستوى الثاني هو استمرار الحكومة في الدوران حول نفسها وإحجامها عن الإصلاحات الهيكلية المطلوبة من قبل المجتمع الدولي كشرط أساسي من أجل مساعدة البلد على تجاوز أزمته الاقتصادية. وهما المستويان اللذان يحجبان الدعم المالي عن البلد ويعزلان الحكومة الحالية.
التضامن الدولي إزاء الكارثة لا يغيّر في الموقف السياسي
هل يشكّل التضامن الدولي الذي أبدته عواصم غربية وعربية مع لبنان إزاء الكارثة غير المسبوقة التي تعرّضت لها العاصمة، مناسبة لانفتاح دولي على الحكم اللبناني، لا سيما بعد الإعلان عن اتصال وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو بالرئيسين عون ودياب وعن زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى بيروت في الساعات المقبلة، وإرسال عددٍ كبيرٍ من الدول العربية والغربية والشرقية مساعدات تسهم في تخفيف المحنة التي أصابت لبنان؟
قد يسعى أهل الحكم إلى الإفادة من المبادرات الخارجية المتعاطفة مع تعرّض لبنان للكارثة غير المسبوقة، لكن الأوساط السياسية المتابعة للموقف الدولي السلبي من السلطات اللبنانية تستبعد أي تغيير في توجّهات العواصم الغربية والعربية المعنية التي لن تعدّل في نظرتها إلى التركيبة الحاكمة الحالية. وفي رأي هذه الأوساط، فإنّ حماسة هذه العواصم لتقديم المساعدات الإنسانية إلى لبنان والتي سيأتي معظمها بمعزل عن الحكومة يبقى تحت عنوان التعاطف الإنساني، فيما المساعدات المطلوبة لنهوض البلد من أزمته العميقة ومن الحفرة الاقتصادية والمالية التي ازدادت عمقاً مع كارثة الانفجار الهائل، تتطلّب قرارات كبرى ما زالت مرهونة بالموقف السياسي ومتوقّفة على شرطَيْ الإصلاحات الهيكلية واعتماد سياسة النأي بالنفس عن حروب وتجاذبات المنطقة التي يقحم "حزب الله" لبنان فيها.
وعليه، سيبقى السؤال حول كيفية إنقاذ اقتصاد لبنان بلا جواب في الظرف الراهن.