دقّت المنشورات التي تحمل عبارة "اقتلوا الفيروس الصيني"، وهي تستقر على عتبات منازل الطلبة الآسيويين في ولاية ديلاوير الأميركية، ناقوس الخطر لدى الفتاة إيلّا فينغ، التي باءت كل محاولاتها للتأقلم مع الواقع الجديد في الولايات المتحدة بالفشل، لتقودها الظروف المشحونة إلى العودة لمسقط رأسها في شنغهاي، وسط تصاعد حملات الكراهية ضد الأجانب، تحديداً القادمين من بلاد التنين، حيث أطل شبح كورونا لأول مرة.
الحادثة التي تناقلتها الجالية الصينية على نطاق واسع في موقع التواصل الاجتماعي "وي تشات"، كان مسرحها عدد من المجمعات السكنية، التي استيقظ سكانها على مطبوعات عنصرية ملقاة على عتبات المنازل، ونوافذ السيارات الخاصة بالطلبة، في واقعة مقلقة، أعربت أكبر جامعات الولاية، الشهر الماضي، عن أسفها وإدانتها الشديدة لها.
وفي هذا الصدد قالت جامعة ديلاوير المدعومة من الحكومة الفيدرالية، في رسالة إلى منسوبيها المتضررين، إنه "لمن الواضح أن كوفيد – 19، قد أدى إلى زيادة في العنصرية وكراهية الأجانب، نحن نتفهم أنك قد تشعر بالقلق حول سلامتك، لكن كن على دراية أن مجتمع الجامعة بأكمله يقف تضامناً معكم خلال هذه الأوقات الصعبة".
ومن جهة أخرى، فتحت شرطة الولاية حينها تحقيقاً يتقصى أمر النشرات، التي ما زال مصدرها مجهولاً، واكتفت المؤسسة التعليمية بتقديم الدعم المعنوي، وحثِّ طلابها على التبليغ عن أي اعتداء أو تهديد يمس سلامتهم، وبعد مرور شهر ونصف الشهر على غياب الحادثة عن الرأي العام ووسائل الإعلام المحلية، تسيطر على الأوساط الصينية، موجة قلق تتصاعد على وقع تصريحات دونالد ترمب، التي يكيل فيها الاتهامات لبكين بنشر الفيروس في أرجاء العالم.
عزلة الوباء خانقة
عبارة "الفيروس الصيني" لا تمثل إلا جزءاً من معاناة الصينيين، التي انقلبت حياتهم في الولايات المتحدة رأساً على عقب، حيث لم يعد بمقدورهم التواصل وجهاً لوجه مع أقرانهم، ورغم تخفيف الإجراءات الاحترازية عالمياً، والوصول لفهم أفضل لطرق انتقال الوباء، فإن كثيراً منهم ما زال يتحاشى الخروج من المنزل بشكل كلي، وأدت طبيعة كثير من الشباب والفتيات ممن يميلون إلى تمضية الوقت في الأحياء الصينية بالمدن الكبرى، إلى عدم تمكنهم من عقد لقاءات محدودة العدد أو الخروج ملتزمين بالبروتوكولات الوقائية، وذلك بسبب مغادرة أعداد كبيرة من مواطنيهم، خلال الأشهر الماضية.
وفي هذا الشأن، فإن هذه العزلة الاجتماعية ربما تزداد مع اتجاه واشنطن إلى تضييق الخناق على بكين تجارياً، فبعد العقوبات التي فرضتها على عملاق الهواتف الصيني شركة هواوي، وتحذيرها شديد اللهجة لحلفائها من التعاقد معها، توقَّع المستشار التجاري للبيت الأبيض بيتر نافارو، أن يتّخذ الرئيس الأميركي إجراءً قوياً ضد تطبيقيّ التواصل الإلكتروني "تيك توك"، و"وي تشات"، اللذين يستخدمانهما الصينيون على نطاق واسع.
وعلى صعيد آخر، فإن اتساع الهوة بين البلدين النوويين في الآونة الأخيرة ليس السبب الوحيد وراء تردي أوضاع الجالية الصينية في الولايات المتحدة، فمنذ اجتياح فيروس كورونا أواخر مارس (آذار) الماضي، تزايدت حوادث الكراهية ضد الآسيويين، وكشفت إحصاءات رُصدت في بدايات الوباء، ونشرتها منظمة "AAPI" المناهضة للعنصرية عن استلام أكثر من 1100 بلاغ عن اعتداء جسديّ ولفظيّ تعرض له أميركيون من أصول آسيوية.
"أشعر بالأمان مع أقراني"
إيلا فينغ، التي اعتادت الإقامة في سكن جامعة ديلاوير للطلاب الدوليين، منذ قدومها العام الماضي إلى الولايات المتحدة الأميركية، تقول إنها رغم المخاوف والمنشورات التي تُدولت، أخيرا، لم تفكر بتغيير مكان إقامتها لوجود العديد من بني جلدتها بنفس المبنى.
وفي ذات السياق، فإن فكرة الرحيل بدأت تراودها منذ أبريل (نيسان) الماضي، وأصبحت واقعاً على إثر تأزم الأوضاع الصحية والاجتماعية، التي دفعتها إلى اتخاذ قرار نهائي بالعودة واستكمال دراستها من الصين عبر الإنترنت، غير أن هذه الرغبة اصطدمت مع صعوبة الحصول على تذكرة سفر في ظل حظر الرحلات، قبل أن تظفر برحلة غير مباشرة إلى شنغهاي في منتصف الشهر الحالي، كلّفتها مبالغ طائلة.
وعن موقفها بشأن الصراع بين واشنطن وبكين، تقول فينغ، لـ"اندبندنت عربية"، إنها لا تتفق مع السياسات الأميركية، وتعتبر أن تصريحات ترمب أشعلت نزاعات مع دول عدة منها الصين، الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى الإضرار بالدارسين على أراضيها.
مضيفة أن هذه سياسة سابقة من نوعها بمنع الطلاب الأجانب من "الدراسة عن بعد"، وحظر الرحلات للصين كل هذا أثار جدلاً واسعاً في مواقع التواصل الاجتماعي، وهي قرارات تؤكد السلطات الأميركية أنها لحماية أمنها القومي وصحة مواطنيها، غير أن الفتاة الصينية رأت الخطوات الأخيرة تعرض حياة الأجانب للخطر، وسط جو محتقن بنيران التمييز.
"لا ترسل أجوبتي للحكومة الأميركية"
أحد المقيمين الصينيين ممن تواصلت "اندبندنت عربية" معهم، قال بعد إرسال إجاباته، إنه "لا يمانع نشرها في الصحيفة"، ثم أردف جاداً، "لكن لا ترسلها للحكومة الأميركية"، قبل أن يطمئن عندما أفهمته أنها محض آراء عادية يضجّ بها الشارع الأميركي والقنوات الرسمية، بل حتى إن حدتها تجاه ترمب أو سياساته أقل بالمقارنة مع تعاطي شريحة من الأميركيين مع رئيسهم المثير للجدل لدى البعض، الذي قال في إحاطة متلفزة قبل أيام: "لا أحد يحبني"!
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يقول ديلان، إن علاقته مع جيرانه متميزة، لكنه لا يخفي سماعه عن تلقي بعض مواطني دولته تهديدات بالعنف، ويتابع، "ليس لدي أي اهتمام بالسياسة، في الواقع أنا لا أفهم سبب الخلاف بين الولايات المتحدة والصين، أعتقد أنه من الجيد تقبل وجود آراء مختلفة لبناء علاقات متوازنة". وفي ذات السياق أضاف أن "وجهات نظر بعض الصينيين حول سيد البيت الأبيض هي مشابهة لما يتناقله الأميركيون عنه، فهم يشاهدون يوتيوب، الذي يمتلئ بمقاطع الفيديو المناهضة لترمب وتصرفاته".
ويضع الشاب الصيني يده على نقطة جوهرية يحاول أبناء جلدته التأكيد عليها وهي أن الفيروس التاجي لم "يُصنع" في الصين، ولكنه "تفجر" منها لأول مرة في أواخر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، لتتبنى السلطات تدابير إغلاق مشددة شملت كل المدن والمقاطعات، لافتاً إلى أن معظم المرضى الجدد قدموا من الخارج، في إشارة إلى سيطرة بلاده على الوباء.
حرب القنصليات
تشهد العلاقات بين واشنطن وبكين توترات عدة على صعيد انتهاكات حقوق الإنسان في هونغ كونغ، واضطهاد الأقليات، والقيام بعمليات التجسس وسرقة الملكية الفكرية، وهي اتهامات تنفيها سلطات البلد الآسيوي.
وفي شأن متصل، تصاعدت حدة الخطاب بين البلدين خلال الأسبوعين الماضيين، مع إغلاق القنصلية الصينية في هيوستن التي تضم لوائحها أكثر من 900 ألف مواطن، قبل أن ترد الصين بإغلاق القنصلية الأميركية في مدينة تشنغدو.
وجاء التحرك الأميركي بعد تقارير وردت بوسائل إعلام محلية في ولاية تكساس، تفيد بأنه يجري إحراق وثائق في فناء القنصلية، التي افتتحت عام 1979، وتعتبر واحدة من خمس قنصليات صينية في الولايات المتحدة. وعلّقت مسؤولة بوزارة العدل بأن "الصين استأثرت بحصة كبيرة من قضايا التجسس وسرقة الأسرار التجارية بلغت 80 في المائة من إجمالي قضايا التجسس لدى الوزارة".
وفي هذا الصدد كشف مسؤول في الاستخبارات الأميركية أن "التجسس والأنشطة الخبيثة التي تقوم بها البعثات الدبلوماسية الصينية تحدث في جميع أنحاء الولايات المتحدة لكن أنشطة قنصلية هيوستن تجاوزت الحد المسموح به"، وأشار إلى محاولات تجسس عديدة كان آخرها محاولات الحصول على نتائج أبحاث معملية للتوصل إلى لقاح (كوفيد – 19).
توجه الإدارة الأميركية وموقفها المتشدد من بكين وقياداتها يعكسه وزير الخارجية مايك بومبيو بقوله، "لقد فتحنا أذرعنا للمواطنين الصينيين فقط لرؤية الحزب الشيوعي الصيني يستغل مجتمعنا الحر المفتوح، إن هذا النموذج من التعامل الأعمى مع الصين يجب أن يتوقف".
وفي خضم ما وُصف بـ"حرب القنصليات"، دعت الصين، قبل أكثر من أسبوع، طلابها في الولايات المتحدة إلى التنبه لتوقيفات وعمليات استجواب وصفتها بـ"التعسفية"، بعد ساعات من إغلاق واشنطن قنصلية هيوستن.
وقالت وزارة الخارجية، في بيان نشر على مواقع التواصل الاجتماعي، إن "وكالات تطبيق القانون الأميركية في الآونة الأخيرة كثفت الاستجوابات التعسفية والمضايقات ومصادرة الممتلكات الشخصية والاعتقالات التي تستهدف الطلاب الدوليين الصينيين في الولايات المتحدة".
"نحن أكثر جدية"
وعن التوترات السياسية الأخيرة، تقول جاكي وانغ التي غادرت الولايات المتحدة قبل شهر ونصف الشهر إن "الأميركيين لا يأخذون أشياء كثيرة على محمل الجد مثلما يفعل الشعب الصيني في تعاطيه على سبيل المثال مع ارتداء الكمامة والتباعد الاجتماعي"، وتابعت، "الصينيون يطالبون الحكومة الأميركية بتركيز جهودها لإيقاف تفشي الفيروس في أراضيها، بدلاً من تحميل بلادهم مسؤولية انتشاره عالمياً والدخول في مناوشات"، على حد تعبيرها.